الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أنشد فيه: أقسم باللّه أبو حفص عمر تقدم الكلام عليه في الشاهد الثامن والخمسين بعد الثلاثمائة. وأنشد بعده: أنا ابن التّارك البكريّ بشرٌ تقدم أيضاً ما يتعلق به في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين. والله أعلم. أنشد فيه: هذا سراقة للقرآن يدرسه تمامه: والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثاني والثمانين. وأنشد بعده: الشاهد الرابع والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر إذا زجر السّفيه جرى إليه تمامه: وخالف والسّفيه إلى خلاف على أن الضمير في إليه راجع على المصدر المدلول عليه بالوصف، أي: إلى السفه. وهذا البيت أورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى: {ولكنَّ البرَّ من آمنَ باللّه} في توجيه صحة الخبر عن المبتدأ فيه، قال: من كلام العرب قولهم: إنما البر الصادق الذي يصل رحمه ويخفي صدقته فيجعل الاسم خيراً للفاعل، والفعل خبراً للاسم، لأنه أمر معروف المعنى. فأما الفعل الذي جعل خبراً للاسم فقوله تعالى: {ولا تَحسَبَنّ الذينَ يَبخلونَ بما آتاهم اللَّهُ مِنْ فَضْلهِ هو خيراً لهم} فهو كناية عن البخل. فهذا لمن جعل الذين في موضع نصب وقرأها تحسبن بالتاء من فوق، ومن قرأ بالياء من تحت جعل الذين في موضع رفع، وجعل عماداً للبخل المضمر، فاكتفى بما ظهر في يبخلون من ذكر البخل. ومثله في الكلام: البسيط هم الملوك وأبناء الملوك لهم *** والآخذون به والسّاسة الأول وقوله: به يريد بالملك. وقال الآخر: إذا نهي السّفيه جرى إليه البيت يريد إلى السفه. انتهى. وأنشده ثعلب أيضاً في أماليه وقال: أي: جرى إلى السفه. واكتفى بالفعل من المصدر. وأورده ابن جني أيضاً في إعراب الحماسة عند قوله: الطويل ولم أر قوماً مثلنا خير قومهم *** أقلّ به منّا على قومهم فخرا وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي عشر بعد الثلاثمائة. وأورده في المحتسب أيضاً عند قراءة الأعمش: ومن يرد ثواب الدنيا يؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها وسيجزى الشاكرين بالياء فيهما. قال: أضمر الفاعل لدلالة الحال عليه، وإضماره فاش، وعليه قوله: إذا زجر السّفيه جرى إليه ***.............. البيت أقول: هذا ليس من قبيل إضمار الفاعل في قراءة الأعمش كما هو ظاهر. وقوله بعد هذا، وكما أضمر المصدر مجروراً، أعني الهاء في إليه، يعني إلى السفه. كذلك أيضاً أضمره مرفوعاً بفعله، لم أفهم معنى قوله أضمره مرفوعاً بفعله وفاعل جرى وخالف ضمير السفه. وأورده ابن الشجري أيضاً عند شرح قول الشاعر: الوافر ومن يك بادياً ويكن أخاه *** أبا الضّحاك ينتسج الشّمالا قال: الهاء في قوله أخاه عائدة إلى البدو الذي هو ضد الحضر، يقال: بدا فلان يبدو بدواً، إذا حل في البدو، دل على عود الهاء إلى البدو قوله بادياً، كما دل السفيه على السفه، فأضمره القائل: إذا نهي السّفيه جرى إليه ***.............. البيت ومثله قول القطامي: هم الملوك وأبناء الملوك لهم البيت المذكور. ثم ذكر كلام الفراء من غير أن يعزوه إليه. ثم قال ومثل ذلك قوله تعالى: {وإنْ تَشكرُوا يَرضهُ لكُم}، أي: يرض الشكر. وكذلك قوله تعالى: {الذينَ قالَ لهم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قد جَمَعُوا لكم فاخشَوْهم فزادَهُمْ إيمان} أي: فزادهم قول الناس إيماناً. قال: وقوله: أبا الضحاك نصب على النداء، فكأنه قال: ومن يك بادياً، ويكن أخا البدو: يا أبا الضحاك. وجعله أخا البدو، كقولك: يا أخا العرب ويا أخا الحضر. وإنما قال: ومن يك بادياً، ثم قال: ويكن أخا البدو، لأنه قد يحل في البدو من ليس من أهل البدو، فسمي بادياً، ما دام مقيماً في البدو. والشمال: هنا وعاء كالكيس يجعل فيه ضرع الشاة يحفظ به. يقال: شملت الشاة، أي: جعلت لها شمالاً. وينتسج: يفتعل من قولك: نسجت الثوب. فالمعنى: من يكن من أهل البدو يمارس ما يحتاج إليه الغنم. انتهى مختصراً. وقوله: إذا زجر هو بالبناء للمفعول، ورواه الجماعة: إذا نهي مثله. ومتعلق النهي عام محذوف، أي: عن أي شيء كان. وقوله: وخالف مفعوله محذوف أي: خالف زاجره. وقوله: والسفيه إلى خلاف جملة تذييلية؛ أي: شأن السفيه الميل إلى مخالفة الناصح. وهذا البيت لم يعزه الفراء إلى أحد. والله أعلم. وأنشد بعده: الشاهد الخامس والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر ولو أنّ الأطبّا كان حولي *** وكان مع الأطبّاء الأساة على أنه قد يستغنى بالضمة عن واو الضمير في ضرورة الشعر كما هنا فإن الأصل: ولو أن الأطباء كانوا حولي، فحذفت الواو ضرورة، وبقيت الضمة دليلاً عليها. وأورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى في سورة البقرة: فلا تخشَوْهُمْ واخشَوْنِي ولأتمَّ نِعمتي عَليكمْ قال: وقوله: واخشوني أثبتت فيها الياء ولم تثبت في غيرها، وكل ذلك صواب. وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدل عليها، وليست العرب تهاب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسوراً. من ذلك: أكرمن وأهانن في سورة الفجر. وقوله: أتمدُّوننِ بمالٍ . ومن غير النون: المناد والداع وهو كثير، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمة ما قبلها مثل قوله سَندْعُ الزَّبانِية ويَدْعُ الإنسانُ وما أشبهه. وقد تسقط العرب الواو، وهي واو جمع، اكتفاءً بالضمة قبلها فقالوا في ضربوا: قد ضرب، وفي قالوا: قد قال. وهي في هوازن وعليا قيس أنشدني بعضهم: الوافر إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا وأنشدني الكسائي: البسيط كأنّهم بجناحي طائرٍ طار وأنشدني بعضهم: فلو أن الأطبّا كان عندي البيت وتفعل ذلك في ياء التأنيث من تحت، كقول عنترة: الكامل إنّ العدوّ لهم إليك وسيلةٌ *** إن يأخذوك تكحّلي وتخضّب يحذفون الياء، وهي دليل على الأنثى، اكتفاءً بالكسر. انتهى. وظاهر كلامه أن هذا لغة لا ضرورة. وأورده صاحب الكشاف أيضاً في سورة المؤمنين شاهداً لقراءة من قرأ: قد أفلح بضم الحاء اجتزاء بالضمة عن الواو، والأصل قد أفلحوا، على لغة أكلوني البراغيث. ونقل ابن هشام في المغني في الجهة الرابعة من الكتاب الخامس، عن التبريزي، في قراءة يحيى بن يعمر: على الذي أحسن بالرفع أن أصله أحسنوا، فحذفت الواو اجتزاءً عنها بالضمة، كما قال: إذا شاء ما ضرّوا من أرادوا البيت ثم قال: وحذفت الواو. وإطلاق الذي على الجماعة ليس بالسهل، والأولى قول الجماعة إنه بتقدير مبتدأ، أي: هو أحسن. وأما قول بعضهم في قراءة ابن محيصن: لمن أراد أن يتم الرضاعة إن الأصل أن يتموا بالجمع، فحسن لأن الجمع على معنى من. ولكن أظهر منه قول الجماعة: إنه جاء على إهمال أن الناصبة. انتهى مختصراً. وهذا الكلام أيضاً يدل على أنه غير ضرورة. وأورده المرادي في شرح الألفية كذلك، ولم يقيده بضرورة. وفي البيت شاهد آخر، وهو قصر الممدود، وبه أورده ثعلب في أماليه قال: قصر الأطباء في أول البيت ومد في آخره وأصله المد. وأما قوله: كان حولي فإنه اكتفى بالضمة عن واو الجمع. هذه عبارته. وأورده ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف في موضعين بالوجهين ذكره في المسألة الخامسة والسبعين في مسألة فعل الأمر، هل هو معرب ومبني على أن الاكتفاء بالضمة ضرورة. وأورده في المسألة الثانية عشرة بعد المائة في المقصور والممدود، على قصر الأطبا لضرورة الشعر. قال: والقياس يوجب مده؛ لأن الأصل في طبيب أن يجمع على طيباء، كشريف وشرفاء إلا أنه اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، فاستثقلوا اجتماعهما فنقلوه من فعلاء إلى أفعلاء، فصار أطبباء، فاستثقلوا أيضاً اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد، فنقلوا كسرة الباء إلى الطاء وأدغموا. وأطنب في الموضعين، وبين حجج الفريقين، وجاء بما يجلو العين، ويمحو عن القلب الرين. وروى بعد البيت الشاهد بيتاً ثانياً، والرواية عنده هكذا: فلو أنّ الأطبّا كان حولي *** وكان مع الأطبّاء الشّفاة إذن ما اذهبوا ألماً بقلبي *** وإن قيل الشّفاة هم الأساة والطب بالكسر في اللغة: الحذق. والطبيب: الحاذق. والأساة: جمع آس، كقضاة جمع قاض. قال في الصحاح: الآسي: الطبيب. وكذلك الشفاة جمع شاف. وقوله: إذن ما أذهبوا جواب لو. ورواية العيني تقديم الأساة في قافية البيت الأول، وتأخير الشفاة في قافية البيت الثاني. ولم يعزهما الفراء فمن بعده إلى أحد. والله أعلم. وأنشد بعده: الشاهد السادس والسبعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س: الطويل بحوران يعصرن السّليط أقاربه على أنه جاء على لغة أكلوني البراغيث. قال سيبويه: واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك، فشبهوا هذا بالتاء التي يظهرونها في قالت فلانة، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامةً كما جعلوا للمؤنث، وهي قليلة. قال الشاعر: ولكن ديافيٌّ أبوه وأمّه *** بحوران يعصرن السّليط أقاربه انتهى. فأقاربه فاعل يعصر، والنون علامة لكون الفاعل جمعاً كتاء التأنيث. قال ابن هشام في شرح شواهده: إنما قال يعصرن لأنه شبههم بالنساء، لأنهم لا شجاعة لهم، والخدمة والتبذل في العرب إنما هو للنساء، وإما الرجال فشغلهم بالحروب. وقيل شبهه ببعير ديافي، ثم أقبل يصف أقارب البعير وأقاربه جمال. فلذلك جاء بالنون. انتهى. أقول: الوجه الثاني بعيد لا قرينة له، ويزيده بعداً يعصرن السليط. قال ابن خلف: وفي رفع أقاربه أوجه أخر: أحدها: يجوز أن يكون مبتدأ، ويعصرن خبر مقدم عليه؛ وهذا سائغ عند أهل البصرة كما قالوا: مررت به المسكين يريدون: المسكين مررت به. قال أبو علي: وفيه مع هذا قبح، لأن الخبر جملة وليس بمفرد، فلا ينبغي أن يجوز فيه، ما جاز في الأصل الذي هو المفرد. وأهل الكوفة لا يجيزون مثل هذا. ويحتمل أن يكون رفعاً بحوران ويكون بحوران صفة لديافي، ويعصرن حالاً من الأقارب. ويجوز أن يكون بدلا من النون كما قيل في: وأسَرُّوا النَّجْوَى الذين ظَلَمُوا . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، والجملة جواب لسؤال مقدر، كأنه لما قيل بحوران يعصرن السليط فقيل: من هم؟ فقال: هم أقاربه. أقول: هذه الوجوه الأربعة مبنية على أن النون ضمير، وهذه النون في البيت سواء كانت حرفاً، أم اسماً تدل على صحة ما نقله الشارح المحقق في باب التوكيد عن الأندلسي، من جواز رجوع ضمير جماعة المؤنث إلى الجمع المكسر العاقل، فكان ينبغي أن يستدل بهذا البيت دون البيت المتقدم لخفائه كما تقدم. وقوله: ديافي خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: لكن أنت ديافي، يدل عليه قوله فيما قبله: لو كنت ضبياً، وهو ديافي: لقوله فلو كان ضبياً كما يأتي. وهو منسوب إلى دياف بكسر الدال بعدها مثناة تحتية وآخره فاء. قال صاحب العباب: دياف من قرى الشام، وأهلها نبط الشام، وتنسب الإبل إليها والسيوف. وإذا عرضوا برجل أنه نبطي نسبوه إليها. قال: ولكن ديافيٌّ أبوه وأمه البيت وهذا يدل على أن ديافاً بالشام، لا بالجزيرة كما قيل، لأن حوران من رساتيق دمشق. وكذا قال الحسن السكري في شرح ديوانه: وقال جرير: الرجز إنّ سليطاً كاسمه سليط *** لولا بنو عمروٍ وعمرٌ عيط قلت ديافّيون ونبيط أراد: عمرو بن يربوع، وهم حلفاء بني سليط. وقال الأخطل: الطويل كأنّ بنات الماء في حجراته *** أباريق أهدتها ديافٌ لصرخدا انتهى. ولم يورد أبو عبيد البكري دياف في معجم ما استعجم. وأبوه مرفوع بديافي، لأنه خبر سببي. وأتى بضمير الغيبة لأن التقدير أنت رجل ديافي أبوه. وأمه معطوف عليه. وقوله: بحوران متعلق بيعصرن، وجملة: يعصرن صفة لديافي، وضمير أقاربه راجع عليه. هذا هو الظاهر. وذكر ابن خلف أوجهاً متعسفة في إعراب كل لفظة من هذا البيت لا فائدة في نقلها. ويعصرن بكسر الصاد. قال صاحب المصباح: عصرت العنب ونحوه عصراً، من باب ضرب: استخرجت ماءه، وأراد هنا يستخرجن السليط بفتح السين وكسر اللام. قال الصاغاني في العباب: السليط الزيت عند عامة العرب، وعند أهل اليمن دهن السمسم. وقال ابن دريد وابن فارس: السليط بلغة أهل اليمن، وبلغة من سواهم: دهن السمسم: أقول: الأمر على خلافه، فإني سمعت أهل مكة حرسها الله تعالى، وأهل تهامة واليمن يسمون دهن السمسم: السليط. انتهى. وقال ابن خلف: السليط الشيرج وهو هنا الزيت؛ لأن حوران من مدن الشام، وأهلها نبط، فهي بعصر الزيت أشهر منها بعصر الشيرج. وقد يجوز أن يكون الشيرج، لأنه يعصر بالشام كما يعصر الزيت. والدليل على أن السليط يقع على الزيت قول النابغة الجعدي: المتقارب أضاءت لنا النّار وجهاً أغ *** رّ ملتبساً بالفؤاد التباسا يضيء كضوء سراج السّلي *** ط لم يجعل اللّه فيه نحاسا والنحاس: الدخان، وذلك معدوم في الزيت، وأما الشيرج فكثير الدخان. هجاه بذلك إذ جعله من أهل القرى المستخدمين لإقامة عيشهم، ونفاه عما عليه العرب من الانتجاع والحرب. والبيت من أبيات للفرزدق، وهي: الطويل ستعلم يا عمرو بن عفرى من الذي *** يلام إذا ما الأمر عيّت عواقبه فلو كنت ضبّيّاً صفحت ولو سرت *** على قدمي حيّاته وعقاربه ولكن ديافيٌّ أبوه وأمّه *** بحوران يعصرن السّليط أقاربه ولمّا رأى الدّهنا رمته حباله *** وقالت ديافيٌّ مع الشام جانبه فإن تغضب الدّهنا عليك فما به *** طريقٌ لزيّاتٍ تقاد ركائبه تضنّ بمال الباهليّ كأنّم *** تضنّ على المال الذي أنت كاسبه وإنّ امرأً يغتابني لم أطأ له *** حريماً ولا تنهاه عنّي تجاربه كمحتطبٍ يوماً أساود هضبةٍ *** أتاه بها في ظلمة اللّيل حاطبه أحين التقى ناباي وابيضّ مسحلي *** وأطرق إطراق الكرا من أحاربه روى صاحب الأغاني بسنده عن محمد بن سلام قال: أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله، فثقل عليه الكثير وخشيه في القليل، وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد كان هجاه جرير، لروايته للفرزدق، في قوله: الطويل ونبّئت جوّاباً وسكناً يسبّني *** وعمرو بن عفرى لاسلامٌ على عمرو فقال ابن عفراء الضبي: لا يهولنك أمره. فقال: وكيف ذاك؟ قال: أنا أرضيه عنك بدون ما كان هم له به. فأعطاه ثلثمائة درهم، فبلغ الفرزدق صنيع عمرو فقال هذه الأبيات. قال: فأتاه ابن عفراء في نادي قومه فقال له: اجهد جهدك، هل هو إلا هذا، والله لا أدع لك مساءةً إلا أتيتها، ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته، ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته. قال: فاشهدوا أني أنهاه أن ينيك أمه. فضحك القوم، وخجل ابن عفراء. وروى أيضاً بعد هذا في موضع آخر عن يونس النحوي قال: مدح الفرزدق عمرو بن مسلم الباهلي، فأمر له بثلثمائة درهم، وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقاً لعمرو، فلامه، وقال: أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم، وإنما كان يكفيه أن تعطيه عشرين درهماً؟؟؟! فبلغ ذلك الفرزدق فقال: الطويل نهيت ابن عفرى أن يعفّر أمّه *** كعفر السّلى إذ جرّدته ثعالبه وإنّ امرأً يغتابني لم أطأ له *** حريما فلا تنهاه عنّي أقاربه كمحتطبٍ ليلاً أساود هضبةٍ *** أتاه بها في ظلمة اللّيل حاطبه ألمّا استوى ناباي وابيضّ مسحلي *** وأطرق إطراق الكرا من أحاربه فلو كان ضبّيّاً صفحت ولو سرت *** على قدمي حيّاته وعقاربه ولكن ديافيٌّ أبوه وأمه *** بحوران يعصرن.. البيت انتهى وقال ابن خلف وصاحب العباب: سبب هذا الشعر أن عمرو بن عفراء الضبي قال لعبد الله بن مسلم الباهلي: وقد أعطى الفرزدق خلعة، وحمله على دابة وأمر له بألف درهم، فقال له عمرو بن عفراء: ما يصنع الفرزدق بهذا الذي أعطيته، إنما يكفي الفرزدق ثلاثون درهماً، يزني بعشرة، ويأكل بعشرة، ويشرب بعشرة. فهجاه الفرزدق بهذا. انتهى. وكذا رأيته في شرح ديوانه للحسن السكري من رواية ابن حبيب. وقوله: ستعلم يا عمرو الخ، هذا تهديد، وعفراء بالمد، قصر ضرورةً فكتب بالياء، وهي أمه. وعي: بمعنى لم يهتد لوجهه. وقوله: فلو كنت ضبياً الخ، نفاه عن قبيلته لكونه سكن القرى، ولم يكن على طريقة العرب. وقوله: ولما رأى الدهنا الخ، الدهنا يمد ويقصر، وهو موضع ببلاد تميم. وحبالها: أسبابها. وديافي بتقدير هو ديافي، وجملة: مع الشام جانبه صفة له، وجواب لما محذوف، والتقدير سكن الشام ونحوه. وقال الحسن السكري: الواو هنا مقحمة في وقالت: لا موضع لها، أراد قالت. انتهى. وقوله: فإن تغضب الدهنا هذا وجه رمي الدهنا له، فإنه سوقي يتاجر بالزيت. والدهنا لا تقبل من هو كذا. وقوله: تضن، أي: تبخل. وقوله: كمحتطب يوماً الخ، هو خبر إن في قوله وإن امرأ، وهو الذي يجمع الحطب. والأساود: جمع أسود، وهو العظيم من الحيات، وفيه سواد. والهضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض، أشار إلى المثل المشهور لمن يتكلم بالغث والسمين: حاطب ليل؛ لأنه لا يبصر ما يجمع في حبله؛ ربما يجمع في حطبه حيةً يكون هلاكه بها. وقوله: أحين التقى ناباي الخ، التقاء النابين واستواؤهما كناية عن بلوغ الأشد. والمسحل: بكسر الميم وسكون السين وفتح الحاء المهملتين: عارض الرجل، أي: صفحة خده. وأطرق، أي: أرخى عينيه ينظر إلى الأرض. والكرا لغة في الكروان. يقول: أيؤذيني في وقت شدتي، وحين تهابني أقراني وأطرقوا مني، كإطراق الكروان. والاستفهام إنكاري. وقوله: نهيت ابن عفري أن يعفر أمه الخ، التعفير: التمريغ في التراب. والسلى بفتح السين المهملة والقصر، هو الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي. وأنشد بعده: الشاهد السابع والسبعون بعد الثلاثمائة: الرجز؟إن كنت أدري فعليّ بدنه من كثرة التّخليط أنّي من أنه على أنه قد يبين فتح أنا في الوقف بهاء السكت، كما في آخر القافية في هذا البيت. قال ابن جني في سر الصناعة: فأما قولهم في الوقف على أن فعلت: أنا وأنه، فالوجه أن تكون الهاء في أنه بدلاً من الألف في أنا، لأن الأكثر في الاستعمال إنما هو أنا بألف، والهاء قليلة جداً، فهي بدل من الألف. ويجوز أن تكون الهاء أيضاً في أنه ألحقت لبيان الحركة، كما ألحقت الألف ولا تكون بدلاً منها بل قائمةً بنفسها، كالتي في قوله تعالى: {كتابِيَهْ وحِسَابِيه} وسُلطَانِيَهْ ومَالِيَهْ وماهيَهْ . انتهى. والبدنة قال صاحب المصباح: قالوا هي ناقة أبو بقرة. وزاد الأزهري وبعير ذكر. قال: لا تقع البدنة على الشاة. وقال بعض الأئمة: البدنة هي: الإبل خاصة، وإنما ألحقت البقرة بالإبل بالسنة. وقوله: من كثرة متعلق بالفعل المنفي ضمناً، أي: ما أدري من كثرة التخليط. قال صاحب الصحاح: والتخليط في الأمر: الإفساد فيه. وقوله: أني بفتح الهمزة. وقوله: من أنه من عند سيبويه مبتدأ، وأنه خبر، وعند غيره بالعكس، والجملة في محل رفع خبر أني من أنه في محل نصب، ساد مسد مفعولي أدري. وهذا البيت لم أقف له على أثر. والله أعلم. وأنشد بعده: الشاهد الثامن والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر أنا سيف العشيرة فاعرفوني *** حميداً قد تذرّيت السّناما على أن ثبوت ألف أنا في الوصل عند غير بني تميم، لا يكون إلا في الضرورة. قال ابن جني في شرح تصريف المازني أما الألف في أنا في الوقف فزائدة ليست بأصل. ولم نقض بذلك فيها من جهة الاشتقاق. هذا محال في الأسماء المضمرة، لأنها مبنية كالحروف، ولكن قضينا بزيادتها من حيث كان الوصل يزيلها ويذهبها، كما يذهب الهاء التي تلحق لبيان الحركة في الوقف. ألا ترى أنك تقول في الوصل: أن زيد، كما قال تعالى: {إنِّي انا ربَّك} تكتب بألف بعد النون، وليست الألف في اللفظ، وإنما كتبت على الوقف، فصار سقوط الألف في الوصل، كسقوط الهاء التي تلحق في الوقف لبيان الحركة في الوصل، وبينت الفتحة بالألف كما بينت بالهاء، لأن الهاء ماورة للألف. وقد قالوا في الوقف: أنه، فبينوا الفتحة بالهاء كما بينوها بالألف، وكلتاهما ساقطة في الوصل. فأما قول الشاعر: انا سيف العشيرة فاعرفوني ***............ البيت فإنما أجراه في الوصل على حد ما كان عليه في الوقف. وقد أجرت العرب كثيراً من ألفاظها في الوصل على حد ما تكون عليه في الوقف، وأكثر ما يجيء ذلك في ضرورة الشعر. انتهى. وحميداً بدل من ياء اعرفوني لبيان الاسم، وهو منصوب على المدح. قال أبو بكر الخفاف في شرح الجمل: قال الزجاج: حميداً بدل من الياء، وهذا لا حجة فيه، لاحتمال أن يكون منصوباً بإضمار فعل على المدح، كأنه قال: فاعرفوني مشهوراً. وأناب قوله حميداً مناب قوله مشهوراً، لكونه علماً. وحميد يروى مصغراً ومكبراً. وأنشد صاحب الصحاح بدله جميعاً. وتذريت السنام بمعنى علوته من الذروة والذروة بالكسر والضم، وهو أعلى السنام. وحقيقة تذريت السنام علوت ذروته. ونسب ياقوت هذا البيت في حاشية الصحاح إلى حميد بن بحدل، شاعر. وقال ابن الأعرابي: بحدل الرجل، إذا مالت لثته، أي: لحم أسنانه. وقال الأزهري: البحدلة الخفة في السعي. قال: وسمعت أعرابياً يقول لصاحب له: بحدل بجدك. يأمره بالسرعة في المشي. انتهى. وحميد مضاف إلى جده، لأنه حميد بن حريث بن بحدل، من بني كلب بن وبرة، وينتهي نسبه إلى قضاعة. وحميد شاعر إسلامي، وكانت عمته ميسون بنت بحدل أم يزيد بن معاوية. وكان ابن عمه حسان بن مالك بن بحدل سيد كلب في زمانه، وهو الذي بايع مروان بن الحكم يوم المرج، وكان ولاه يزيد بن معاوية على فلسطين والأردن. وأخوه مسعد بن مالك بن بحدل على قنسرين، فلما مات يزيد بن معاوية، وثب زفر بن الحارث على سعيد، فأخرجه منها وبايع لابن الزبير، ثم خرج عمير بن الحباب مغيراً على بني كلب بالقتل والنهب، فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم، اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل فقتل حميد بني فزارة قتلاً ذريعاً. والقصة مفصلة في ترجمة عويف القوافي في الأغاني. وأنشد بعده: الشاهد التاسع والسبعون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات المفصل: البسيط هذا عجز، وصدره: فقمت للطّيف مرتاعاً فأرّقني على أن هاء هي قد تسكن بعد همزة الاستفهام. وفي التسهيل ما يقتضي أنه قليل، وفي شرح مصنفه أنه لم يجئ إلا في الشعر. وقال ابن جني في إعراب الحماسة: أسكن أول أهي لاتصال حرف الاستفهام به، وأجراها في ذلك مجرى المتصل، فصار أهي كعلم، وأجرى همزة الاستفهام مجرى واو العطف وفائه ولام الابتداء. نحو قوله تعالى: {وهْوَ اللّه} وقوله: فَهْوَ جَزَاؤه ، وقولك: وهي قامت، وفهي جالسة، وإن الله لهو السميع العليم. غير أن هذا الإسكان مع همزة الاستفهام أضعف منه مع ما ذكرناه، ومن حيث كان الفصل بينهما وبين المستفهم عنه جائزاً، نحو قولك: أزيد قام وأزيداً ضربت، وليس كذلك واو العطف وفاؤه، ولا لام الابتداء، لا يجوز الفصل بين شيء منهن، وبين ما وصلن به. فأما فصل الظرف في نحو: إن زيداً لفي الدار قائم، فمغتفر لكثرته في الكلام، ألا تراها في هذا البيت مفصولاً بينها وبين ما هي سؤال عنه من اللفظ. وهذا الاتصال وضده من الانفصال، إنما هو شيء راجع إلى موجود اللفظ لا إلى محصول المعنى انتهى. وهذا البيت من قصيدة مسطورة في الحماسة عدتها ثلاثة وأربعون بيتاً للمرار العدوي، وقبله: زارت رويقه شعثاً بعد ما هجعو *** لدى نواحل في أرساغها الخدم فقمت للزّور مرتاعاً وأرّقني ***................... البيت وكان عهدي بها والمشي يبهظه *** من القريب ومنها النّوم والسّأم وبالتّكاليف تأتي بيت جارته *** تمشي الهوينى وما يبدو لها قدم سودٌ ذوائبها بيضٌ ترائبه *** درمٌ مرافقها في خلقها عمم رويق إنّي ومن حجّ الحجيج له *** وما أهلّ بجنبي نخلة الحرم لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم *** عيشٌ سلوت به عنكم ولا قدم ولم يشاركك عندي بعد غانيةٌ *** لا والذي أصبحت عندي له نعم قوله: زارت رويقة، يقول: زار خيال رويقة قوماً شعثاً أي: غبراً بعدما ناموا عند إبل ضوامر، شدت في إرساغها سيور القيد، لشدة سيرها وتأثير الكلال فيها. وقوله: فقمت للطيف الخ، الطيف: الخيال الطائف في النوم. وروي: فقمت للزور وهو مصدر بمعنى الزائر، يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث. والمرتاع: الخائف الفزع. وقد أنشده صاحب المفصل لما ذكره الشارح المحقق. وأنشده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية على أن أم المتصلة وقعت بين جملتين فعليتين في معنى المفردين، والتقدير فقلت: أسارت هي، أم عادني حلمها، أي: أي هذين. وأنشده ابن هشام في موضعين من المغني. الأول في أم، قال: إن أم المعادلة لهمزة الاستفهام تقع بين مفردين، وهو الغالب، وبين جملتين ليستا في تأويل المفردين؛ وتكونان أيضاً اسميتين وفعليتين كهذا البيت. قال: وذلك على الأرجح في هي، من أنها فاعل بمحذوف تفسره سرت. والثاني في أول الباب الثاني، قال: وتقدير الفعلية في أهي، أكثر رجحاناً من تقديرها في: أبشر يهدوننا لمعادلتها الفعلية. قال ابن الحاجب في أمالي المفصل: يريد: أني قمت من أجل الطيف منتبهاً مذعوراً للقائه، وأرقني لما لم يحصل اجتماع محقق، ثم ارتبت لعدم الاجتماع، هل كان على التحقيق أم كان ذلك في المنام. ويجوز أن يريد: فقمت للطيف وأنا في النوم إجلالاً في حال كوني مذعوراً لاستعظامها، وأرقني ذلك لما انتبهت فلم أجد شيئاً محققاً، ثم من فرط صبابته شك! أهي في التحقيق سرت أم كان ذلك حلماً، على عادتهم في مبالغتهم، كقوله: الطويل آأنت أم أمّ سالم انتهى. قال الدماميني بعد أن نقل هذا في الحاشية الهندية: حاصله احتمال كون القيام في اليقظة وفي المنام، وأما الشك في الاجتماع هل كان في النوم وفي اليقظة، فثابت على كل من الاحتمالين. وقوله: وكان عهدي بها الخ، يقول: كيف يجوز مجيئها وقد عهدتها. يبهظها، أي: يعييها قطع المسافة القريبة، والغالب عليها طلب الراحة بالنوم. ونصب الهوينى على المصدر، أي: تمشي مشياً هيناً. والهوينى: تصغير الهونى مؤنث الأهون. وقوله: وما يبدو لها قدم، أي: تجر أذيالها. وقوله: بيض ترائبها جمع تريبة، وهو أعالي الصدر. ومرفق أدرم إذا لم يكن له حجم لاكتنازه باللحم والخلق بالفتح: الخلقة. والعمم، بفتح العين المهملة والميم: الطول. وقوله: رويق إني الخ، هو منادى مرخم رويقة. ونخلة: موضع قرب مكة قال صاحب معجم ما استعجم: نخلة على لفظ واحدة النخل: موضع على ليلة من مكة، وهي التي تنسب إليها بطن نخلة، وهي التي ورد فيها الحديث ليلة الجن. انتهى. وزعم العيني أنه موضع قرب المدينة. وحرم بضمتين: جمع حرام، كسحب جمع سحاب، بمعنى المحرم. وروي أيضاً: وما حج الحجيج. قال ابن جني في إعراب الحماسة: ما هنا يحتمل أن تكون عبارةً عن الله تعالى، وأراد في ما الثانية له، غير أنه حذفها. ويجوز أن تكون مصدرية فتكون الهاء في له لله تعالى وإن لم يجر له ذكر، لأنه قد جرى ذكر الحج، فدلت الطاعة على المطاع سبحانه، فكأنه قال: إني وحج الحجيج لله. ويؤكد ذلك أنه لم يعد مع الثانية له، لأنه غير محتاج إليها من حيث كان مصدراً. ويجوز أن تكون عبارة عن البيت؛ فأقسم به، فحينئذ يحتمل الهاء في له أن تكون للبيت على أن اللام بمعنى إلى، وأن تكون لله، أي: والبيت الذي حجه الحجيج لطاعة الله. وقوله: لم ينسني الخ، هو مضارع أنسى، وذكركم: مفعول مقدم، وعيش: فاعل مؤخر، وقدم بكسر القاف معطوف على عيش. قال ابن جني: هذا البيت جواب القسم، وأجاب بلم وحرفا الجواب في النفي إنما هما: ما ولا، لكن اضطر فشبه لم بما، كما اضطر إلى ذلك الأعشى في قوله: المتقارب أجدّك لم تغتمض ليلةٌ فاعرف ذلك فإنه لطيف. ومن أواخر القصيدة: بل ليت شعري متى أغدو تعارضني *** جرداء سابحةٌ وسابح قدم نحو الأميلح من سمنان مبتكر *** بفتيةٍ فيهم المرّار والحكم بل للإضراب عما قبله. وتعارضني، أي: أقودها فتسبقني من سلاسة قيادها. والجرداء: الفرس القصيرة الشعر، وهو محمود في الخيل. وسابحة: كأنها تسبح في سيرها وجريها. وقدم بضم القاف والدال بمعنى متقدم، يوصف به المذكر والمؤنث. ونحو ظرف متعلق بأغدو، والأميلح: اسم ماء. وسمنان بفتح السين: ديار الشاعر. والفتية: جمع فتى. والمرار والحكم: رجلان. وهذا البيت أول شاهد وقع في شرح الشافية للشارح المحقق، قال فيه: وكذا سمنان إما أن يكون مكرر اللام للإلحاق بزلزال، ويكون زيد فيه الألف والنون لا للتكرير، بل كما زيدا في سلمان. ولا دليل في هذا البيت يمنع صرف سمنان على كونه فعلان، لجواز كونه فعلالا. وامتناع صرفه لتأويله بالأرض والبقعة لأنه اسم موضع. انتهى. قال أبو عبيد في معجم ما استعجم: الأميلح بضم أوله وبالحاء المهملة كأنه مصغر، أملح: موضع. ولم يقل: إنه ماء. وقال في سمنان: بفتح أوله وإسكان ثانيه على وزن فعلان: مدينة بين الري ونيسابور. وسمنان بضم السين: جبل في ديار بني أسد، وقال أبو حاتم: في ديار بني تميم. وهذا ضبط مخالف لسائر الرواة. وأول هذه القصيدة في ذم صنعاء اليمن ومدح بلده وقومه. وهذا أولها: البسيط لا حبّذا أنت يا صنعاء من بلدٍ *** ولا شعوب هوىً منّي ولا نقم ولن أحبّ بلاداً قد رأيت به *** عنساً ولا بلداً حلّت به قدم إذا سقى اللّه أرضاً صوب غاديةٍ *** فلا سقاهنّ إلاّ النّار تضطرم وحبّذا حين تمسي الرّيح باردةً *** وادي أشيّ وفتيانٌ به هضم إلى أن قال: هم البحور عطاءً حين تسألهم *** وفي اللّقاء إذا تلقى بهم بهم وهم إذا الخيل جالوا في كواثبه *** فوارس الخيل لا ميلٌ ولا قزم لم ألق بعدهم حيّاً فأخبرهم *** إلاّ يزيدهم حبّاً إليّ هم شعوب بفتح الشين، وكذلك نقم بضم النون والقاف: موضع باليمن، وهو جبل صنعاء الشرقي. وعنس بفتح المهملة وسكون النون، وقدم بضم القاف والدال: حيان من اليمن. وأشي، بضم الألف وفتح الشين المعجمة وتشديد الياء؛ قال أبو عبيد: هو واد وجبل في بلاد العدوية من بني تميم. وقال عمر بن شبة: أشي بلد قريب من اليمامة. وأنشد هذا البيت. وهضم بضمتين: جمع هضوم، وهو الذي ينفق في الشتاء، أي: حبذا هم في برد الشتاء، إذا اشتد الزمان، لأنهم يطعمون فيه. والبهم بضم ففتح: جمع بهمة بضم فسكون، وهو الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى من شدة بأسه. وتلقى مفعوله محذوف، أي: إذا تلقى بهم عدوك. وقوله: وهم إذا الخيل أراد بالخيل فرسانها، كقولهم: يا خيل الله اركبي. وجالوا، أي: وثبوا، يقال: جال في ظهر دابته، إذا ركبها. لا ميل: لا مائلون عن وجوه الأعداء، جمع أميل، وقيل هو الذي لا يثبت على ظهر الدابة، وهو عطف على فوارس، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا هم ميل. وقزم بفتح القاف والزاي: رذال الناس وسفلتهم، يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى؛ لأنه في الأصل مصدر بمعنى الدناءة والقماءة. والكواثب: جمع كاثبة بموحدة بعد مثلثة، وهي في عرف الفرس المتقدم من قربوس السرج حيث يقع عليه يد الفارس. كذا في شرح الحماسة. وأورد صاحب الكشاف هذا البيت في سورة الأعراف على أن الخبر في قوله تعالى: {يَمُدُّونهمْ في الغي} جار على غير ما هو له، كما في البيت، فإن الخيل مبتدأ وجالوا خبره مسند إلى ضمير القوم. وفيه كلام طويل. وقوله: لم ألق بعدهم الخ، الحي: القبيلة. وخبرت الشيء أخبره، من باب قتل، خبراً بالضم، بمعنى علمته. وانتصب أخبرهم في جواب النفي. وهم الخير فاعل يزيد، فصل ضرورة. والمعنى: لم ألق بعد فراق قومي حياً من الأحياء فأخبرهم إلا ازدادوا في عيني إذا قستهم بمن سواهم. وروى ابن قتيبة الصدر في كتاب الشعراء والأصبهاني في الأغاني: وما أصاحب من قومٍ فأذكرهم وزعم أبو حيان أن الرواية كذا من تحريف ابن مالك. هذا قصور منه. ويجوز رفع فأذكرهم عطفاً على أصاحب. والذكر هنا قلبي بمعنى التذكير، فإن المعنى إني إذا صاحبت قوماً، فتذكرت قومي ازددت محبةً فيهم، لفضل قومي عليهم. هذا البيت أورده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية لما ذكرنا من فصل الضمير المرفوع ضرورة. قال ابن هشام في المغني: ادعى ابن مالك أن الأصل يزيدون أنفسهم، ثم صار يزيدونهم، ثم فصل ضمير الفاعل للضرورة وأخره عن ضمير المفعول. وحامله على ذلك ظنه أن الضميرين لمسمى واحد، وليس كذلك. قال في شرح شواهده وزعم بعض من فسر الضرورة بما ليس للشاعر عنه مندوحة، أن هذا ليس بضرورة، لتمكن قائله من أن يقول إلا يزيدونهم حباً إلي هم، ويكون الضمير المنفصل توكيداً للفاعل. ورده ابن مالك بأنه يقتضي كون الفاعل والمفعول ضميرين متصلين لمسمى واحد، وإنما يجوز ذلك في باب ظن. وهذا سهو لأن مسمى الضميرين مختلفان، إذ ضمير الفاعل لقومه، وضمير المفعول لقومه الممدوحين. ويحتمل عندي أن يكون فاعل يزيد ضمير الذكر، ويكون هم المنفصل توكيداً لهم المتصل. كلام ابن هشام. وقد أخذ مسلم بن الوليد معنى بيت المرار فقال: الوافر ويرجعني إليك إذا نأت بي *** دياري عنك تجربة الرّجال والمرا: شاعر إسلامي في الدولة الأموية، من معاصري الفرزدق وجرير. وهو بفتح الميم وتشديد الراء. قال ابن قتيبة في كتابة الشعراء: المرار العدوي هو ابن منقذ، من صدي ابن مالك بن حنظلة. وأم صدي بالتصغير من جل بن عدي، فيقال له ولولده بنو العدوية. وقال لهم عوف بن القعقاع: يا بني العدوية، أنتم أوسع بني مالك أجوافاً، وأقلهم أشرافاً. والمرار هو القائل: وما اصاحب من قومٍ فأذكرهم *** إلاّ يزيدهم حبّاً إليّ هم وأنشد معه أبياتاً أخر من هذه القصيدة. قال: وفيه وفي قومه يقول جرير: الطويل إن كنتم جربى فعندي شفاؤكم *** وللجنّ إن كان اعتراك جنون وما أنت يا مرّار يا زبد استه *** بأوّل من يشقى بنا ويحين وقد رفع الآمدي نسبه في المؤتلف والمختلف فقال: هو المرار بن منقذ بن عمرو بن عبد الله بن عامر بن يثربي بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. شاعر مشهور. واسم المرار هذا زياد بن منقذ، قاله الحصري في زهر الآداب، وإلى اسمه نسب الشعر. وفي الحماسة قال شراح الحماسة: هو لزياد بن منقذ، وهو أحد بني العدوية من تميم، ولم يقل غير هذه القصيدة، ولم يقل أحد مثلها. وكان قد أتى اليمن فنزع إلى وطنه ببطن الرمة. قال أبو العلاء: الرمة: واد بنجد، يقال بتشديد الميم وتخفيفها وصحفه بعضهم، وتبعه العيني فقال: ببطن الرمث بالمثلثة. وقد نسب الحصري أيضاً هذا الشعر للمرار، قال: أنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلي، وهو المرار العدوي، نسب إلى أمه العدوية، وهي فكيهة بنت تميم ابن الدئل بن جل بن عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة، فولدت لمالك بن حنظلة عدياً ويربوعاً. فهؤلاء من ولده يقال لهم بنو العدوية. وكان زياد نزل بصنعاء فاجتواها ومنزله في نجد، فقال في ذلك قصيدةً يقول فيها وذكر قومه: لم ألق بعدهم حيّاً فأخبرهم *** إلا يزيدهم حبّاً إليّ هم وأراه أول من استثار هذا المعنى. وكان ابن عرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان، وكان مكرماً له، وابن عرادة يتجنى عليه، إلى أن تركه وصحب غيره فلم يحمده. فرجع إلى سلم وفال: الطويل عتبت على سلمٍ فلمّا فقدته *** وصاحبت أقواماً بكيت على سلم رجعت إليه بعد تجريب غيره *** فكان كبرءٍ بعد طولٍ من السّقم ومنه قول أبي العتاهية في جعفر بن المنصور، المعروف بابن الكردية، وهو جعفر الأصغر: الطويل جزى اللّه عنّي جعفراً بوفائه *** وأضعف إضعافاً له بجزائه بلوت رجالاً بعده في إخائهم *** فما ازددت إلاّ رغبةً في إخائه ومنه أيضاً لكنه في الهجو، لبعضهم: الوافر ذممتك أوّلاً حتّى إذا م *** بلوت سواك عاد الذّمّ حمدا ولم أحمدك من خيرٍ ولكن *** رأيت سواك شرّاً منك جدّا كمضطرٍّ تحامى أكل ميتٍ *** فلمّا اضطرّ عاد إليه شدّا قال الصولي: وآخر من أتى بهذا المعنى أحمد بن أبي طاهر: الوافر بلوت النّاس في شرقٍ وغربٍ *** وميّزت الكرام من اللّئام فردّني ابتلاي إلى عليّ ب *** ن يحيى بعد تجريب الأنام وعندي في هذا المعنى مقاطيع جيدة، لولا خشية السأم لسردتها. وزعم أبو تمام في الحماسة أن القصيدة التي منها البيت الشاهد لزياد بن حمل بن سعيد بن عميرة بن حريث. وأخطأ أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم في زعمه أن زياد بن حمل هو المرار العدوي. وزعم الأصفهاني في الأغاني والخالديان في شرح ديوان مسلم بن الوليد أن هذه القصيدة للمرار بن سعيد الفقعسي. والله أعلم. والصواب أنها لزياد بن منقذ العدوي. قاله ياقوت في معجم البلدان، قال: والمرار والحكم أخوان. تتمة ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف من يقال له المرار ستة. أولهم المرار الفقعسي. وستأتي ترجمته إن شاء الله في الكاف من حروف الجر. ثانيهم: المرار بن منقذ، وتقدمت ترجمته هنا. ثالثهم: المرار بن سلامة العجلي، وهو إسلامي. رابعهم: المرار بن بشير السدوسي. خامسهم: المرار الكلبي. سادسهم: المرار بن معاذ الجرشي. وأنشد بعده: الشاهد الثمانون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه: الطويل فبيناه يشري رحله قال قائلٌ: *** لمن جملٌ رخو الملاط نجيب على أن واو وهو قد يحذف ضرورة كما هنا، فإن الأصل فبينا هو يشري. قال سيبويه: في باب ما يحتمل الشعر: اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام. إلى أن قال: وليس شيء يضطرون إليه، إلا هم يحاولون به وجهاً. وما يجوز في الشعر أكثر من أن أذكره لك ها هنا، لأن هذا موضع جمل. قال أبو الحسن: سمعت من العرب قول العجير السلولي: فبيناه يشري رحله قال قائل............. البيت قال الأعلم:اراد بينا هو، فسكن الواو ثم حذفها ضرورة، فادخل ضرورة على ضرورة، تشبيها للواو الأصلية بواو الصلة في نحو منه وعنه. وزعم ابن الأنباري في ترك صرف ما ينصرف من مسائل الخلاف: أن الواو حذفت متحركة. قال: إذا جاز حذف الواو المتحركة للضرورة من فبيناه يشري، فلأن يجوز حذف التنوين للضرورة من باب الأولى، لأن الواو من هو متحركة، والتنوين ساكن، ولا خلاف أن حذف الساكن أسهل من حذف المتحرك. وبين ظرف، لما وصل بالألف إشباعاً للفتحة، جاز إضافته إلى الجمل، وحدث فيه معنى زائد وذلك ظرف الزمان، كما حدث في مع لما أشبعت فتحتها، وحدث بعدها ألف من قولهم معاً. وهو مبتدأ وجملة: يشري خبره، والمجموع في محل جر بإضافة بينا إليها. وإنما جاز هذا على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والتقدير فبينا أوقات هو شار رحله، فإنه يقول. وبينا عند سيبويه لا تقع إلا للمفاجأة، ولا تقع إلا في صدر الجملة، جعلوها بمنزلة الظروف المبهمة التي تقع في صدور الجمل، فإذا أضفتها إلى الجملة التي بعدها جئت بالفعل الذي عمل فيها، نحو قولك: بينا زيد قائم جاء عمرو. وأما الأصمعي فإنه يقول: إضافة بينا إلى المصدر المفرد جائزة، ويروى لأبي ذؤيب: الكامل بينا تعنّقه الكماة وروغه بجر تعنقه. وقال ابن قتيبة: سألت الرياشي عن هذه المسألة فقال: إذا ولي لفظة بينا الاسم العلم رفعت، فقلت: بينا زيد قائم جاء عمرو. وإن وليها المصدر فالأجود الجر. وقوم من النحويين لا يجيزون إضافته إلى المصدر المفرد، ولا إلى غير مصدر، ويمضون على الأصل. ويشري: هنا بمعنى يبيع، وهو من الأضداد. والرحل: كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، وحلس ورسن. والملاط بكسر الميم: الجنب. رخو الملاط: سهله وأملسه. كذا قال القالي. وقال ابن خلف: الملاط: مقدم السنام، وقيل جانبه. وهما ملاطان: العضدان، وقيل الإبطان. وقوله: رخو إشارة إلى عظمه واتساعه. قال الأعلم: وصف بعيراً ضل عن صاحبه فيئس منه، وجعل يبيع رحله، فبينا هو كذلك سمع منادياً يبشر به. وإنما وصف ما ورد عليه من السرور بعد الأسف والحزن. والملاط: ما ولي العضد من الجنب، ويقال للعضدين: ابنا ملاط. ووصف برخاوته لأن ذلك أشد لتجافي عضديه عن كركرته، وأبعد له من أن يصيبه ناكت وماسح وحاز وضب. وهذه كلها أعراض وآفات تلحقه إذا حك بعضده كركرته. والنجيب: الجيد الأصيل، والصواب بدله ذلول فإن القصيدة لامية. قال ابن خلف: وهذا البيت قد وقع صدره في أكثر نسخ كتاب سيبويه، وأنشده أبو الحسن الأخفش: رخو الملاط نجيب بالباء، وأنشده أيضاً في كتاب القوافي كذا، وقال: سمعت الباء مع اللام والميم والراء، كل هذا في قصيدة واحدة، وهي: ألا قد أرى إن لم تكن أمّ مالك *** بملك يدي أنّ البقاء قليل خليليّ سيرا واتركا الرّحل إنّني *** بمهلكةٍ والعاقبات تدور رأى من رفيقيه جفاءٌ وغلظةً *** إذا قام يبتاع القلاص دميم فبيناه يشري رحله قال قائلٌ *** لمن جملٌ رخو الملاط نجيب قال: والذي أنشده أعرابي فصيح لا يحتشم من إنشادها وقال أبو الفتح بن جني: هكذا أنشده أبو الحسن، وهو بعيد، لأن حكم الحروف المختلفة في الروي أن يتقارب مخرجها، كما أنشد سيبويه في كتاب القوافي. والذي وجد في شعر العجير السلولي: فباتت هموم الصّدر شتّى يعدنه *** كما عيد شلوٌ بالعراء قتيل فبيناه يشري رحله قال قائلٌ *** لمن جملٌ رخو الملاط ذلول محلّى بأطواقٍ عتاقٍ كأنّه *** بقايا لجينٍ جرسهنّ صليل وقال صاحب العباب: البيت للعجير السلولي، ويروى للمخلب الهلالي، وهو موجود في أشعارهما. والقطعة لامية، ووقع في كتاب سيبويه نجيب بدل ذلول، وتبعه النحاة على التحريف. وهي قطعة غراء. قال الأسود أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب: قال أبو الندى: القصيدة للمخلب الهلالي، وليس في الأرض بدوي إلا وهو يحفظها، وأولها: الطويل وجدت بها وجد الذي ضلّ نضوه *** بمكّة يوماً والرّفاق نزول بغى ما بغى حتّى أتى اللّيل دونه *** وريحٌ تعلّى بالتّراب جفول أتى صاحبيه بعدما ضلّ سعيه *** بحيث تلاقت عامرٌ وسلول فقال: احملا رحلي ورحليكما مع *** فقالا له: كلّ السّفاه تقول فقال: احملاني واتركا الرّحل إنّه *** بمهلكةٍ والعاقبات تدول فقالا: معاذ اللّه واستربعتهم *** ورحليهما عيرانةٌ وذمول شكا من خليليه الجفاء ونقده *** إذا قام يستام الرّكاب قليل فباتت هموم النّفس شتّى يعدنه *** كما عيد شلوٌ بالعراء قتيل فبيناه يشري رحله قال قائل: *** لمن جملٌ رخو الملاط ذلول محلّى بأطواقٍ عتاقٍ تزينه *** أهلّة جنّ بينهنّ فصول فهلّل حيناً ثمّ راح بنضوه *** وقد حان من شمس النّهار أفول فما تمّ قرن الشّمس حتّى أناخه *** بقرنٍ وللمستعجلات زليل فلمّا طوى الشّخصين وازورّ منهم *** ووطّنه بالنّقر وهو ذلول فقاما يجرّان الثّياب كلاهم *** لما قد أسرّا بالخليل قبيل فقال: ارفعا رحليكما وترفّع *** فماء الأداوى بالفلاة قليل وقد سلك العجير السلولي طريقة المخلب الهلالي، وأدرج معاني قطعته في شعره فقال: الطويل ألا قد أرى إن لم تكن أمّ خالد *** بملك يدي أنّ البقاء قليل وأن ليس لي في سائر النّاس رغبةٌ *** ولا منهم لي ما عداك خليل وما وجد النّهديّ وجداً وجدته *** عليها ولا العذريّ ذاك جميل ولا عروةٌ إذ مات وجداً وحسرةً *** بعفراء لمّا أن أجدّ رحيل ولا وجد ملقٍ رحله ضلّ نضوه *** بمكّة أمسى والرّفاق نزول سعى ما سعى حتّى أتى الليل دونه *** وريحٌ تلهّى بالتّراب جفول وساق هذا المساق حتى قال بعد سبعة أبيات: فبيناه يشري رحله قال قائلٌ *** لمن جملٌ رسل الملاط طويل كذا في شعر العجير رسل الملاط طويل، فعلم أن السبق للمخلب الهلالي. شبه الشاعر حاله في هوى امرأة يحبها، وشدة وجده بها، بوجد هذا الرجل الذي ضل بعيره، وفارقه أصحابه، فباتت هموم هذا الرجل شتى تذهب عنه حيناً فيسكنن وتجيئه جيناً فيعود إليه الألم ويأتيه، كما يأتي العوائد إلى المريض وإلى القتيل ينظرنه، فبينا هو يبيع رحل جمله الذي ضل منه سمع من يعرف الجمل ليرده على صاحبه. والشلو بالكسر: العضو. والعراء بالفتح: الفضاء. والأطواق: جمع طوق. والعتاق: الحسان. والجرس: الصوت. والصليل: صوت فيه شدة مثل صوت الحديد والفضة وما أشبههما. والنضو، بالكسر: البعير المهزول. والريح الجفول: التي تلقى التراب شيئاً على شيء. والسفاه بالفتح: مصدر سفه فلان سفاهة وسفاها. وتدول بمعنى تدور. يقال: دالت الأيام تدول مثل دارت تدور، وزناً ومعنى. واستام: افتعل من السوم، يقال: سام المشتري السلعة واستامها، إذا طلب بيعها. والركاب: الإبل، وهو مفعول، وقليل: خبر المبتدأ الذي هو نقده، أي: دراهمه. وقرن الثاني: موضع. وزليل: مصدر زل بالزاي، إذا مر مراً سريعاً. والعجير السلولي بضم العين وفتح الجيم، قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: هو منسوب إلى بني عجير، وهو حي من أحياء العرب. أقول: العجير لقب، وليس فيه نسبة. على أن الصاغاني قال في العباب: بنو عجرة قبيلة من العرب. وليس فيه بنو عجير. والعجير يحتمل أن يكون مصغر عجر، مصدر عجر عنقه، إذا لواها، ومصغر عجر بفتحتين، مصدر عجر بالكسر، أي: غلظ وسمن. ويحتمل أن يكون مصدر ترخيم أعجر، يقال: كيس أعجر، أي: ممتلئ، وفحل أعجر، أي: ضخم. قال اللخمي في شرح أبيات الجمل: اسم العجير عمير بالتصغير، بن عبد الله بن عبيدة. بفتح العين وكسر الموحدة، وقيل ابن عبيدة بضمها. وهو من بني سلول بن مرة بن صعصعة، أخي عامر بن صعصعة. وأم بني مرة سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة، غلبت عليهم وبها يعرفون. ويكنى العجير أبا الفرزدق، وأبا الفيل. وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية. وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف: أبو الفرزدق فهو العجير السلولي، مولى لبني هلال، ويقال: هو العجير بن عبد الله بن عبيدة بن كعب بن عائشة بن ضبيط بن رفيع بن جابر بن عمرو بن مرة بن صعصعة، وهم سلول وسلول اسم مرتجل غير منقول. وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين بعد الثلاثمائة. وأما المخلب فهو بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحة اسم منقول. قال صاحب العباب: يقال ثوب مخلب، إذا كانت نقوشه كمخالب الطير، وقيل هو الكثير الوشي من الثياب. وكرسي مخلب: معمول بالليف. وخلب التنور: طينه. وهذا الشاعر لم أقف على نسبه ولا على شيء من أثره. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو من أبيات س، وتقدم عليه الكلام في الشاهد الثالث والثمانين: الرجز دارٌ لسعدى إذه من هواكا على أن الأصل إذ هي فحذفت الياء ضرورة. قال القالي في شرح اللباب أوله: هل تعرف الدار على تبراكا وهو بكسر التاء موضع. وفي هذا رد على الكوفيين في زعمهم أن الضمير في هو وهي إنما هو الهاء، والواو والياء زائدتان. قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف: ذهب الكوفيون إلى أن الاسم من هو وهي الهاء وحدها. وذهب البصريون إلى أن الهاء والواو من هو، والهاء والياء من هي، هما الاسم بمجموعهما. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاسم هو الهاء أن الواو والياء يحذفان في التثنية، نحو: هما، ولو كانت أصلاً لما حذفت. والذي يدل عليه أنهما يحذفان في الإفراد وتبقى الهاء، قوله: فبيناه يشري رحله ***.............. البيت وقال الآخر: البسيط بيناه في دار صدقٍ قد أقام به *** حيناً يعلّلنا وما نعلّله وقال الآخر: الرجز إذاه سيم الخلف آلى بقسم *** باللّه لا يأخذ إلاّ ما احتكم وقال الآخر: دارٌ لسعدى إذه من هواكا فدل على أن الاسم هو الهاء وحدها. وإنما زادوا الواو والياء تكثيراً للاسم، كراهية أن يبقى على حرف واحد. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الواو والياء أصل أنه ضمير منفصل، والضمير المنفصل لا يجوز أن يبنى على حرف، لأنه لا بد من الابتداء بحرف والوقف على حرف، فلو كان الاسم هو الهاء لكان يؤدي أن يكون الحرف الواحد ساكناً متحركاً، وهو محال. وأما قولهم إن الواو والياء يحذفان في التثنية. قلنا: إن هما ليس تثنية، وإنما هي صيغة مرتجلة للتثنية، كأنتما. وأما ما أنشدوه من الأبيات فإنما حذفت الواو والياء لضرورة الشعر، كقول الشاعر: الطويل فلست بآتيه ولا أستطيعه *** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل أراد: ولكن اسقني، فحذفت النون للضرورة. وأما قولهم: زادوا الواو والياء تكثيراً للاسم كما زادوا الواو في ضربتهو، قلنا: هذا فاسد، لأن هو ضمير منفصل، والهاء ضمير متصل، وقد بينا أن المنفصل لا يجوز أن يكون على حرف بخلاف المتصل، لأنه لا يقوم بنفسهِ، فلا يجب فيه ما وجب في المنفصل، والواو في ضربتهو لازمة السكون، بخلاف واو هو فإنها جائزة السكون، ولو كانا بمنزلة لوجب أن يسوى بينهما في الحكم. والله أعلم. وأنشد بعده: الشاهد الحادي والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل وإنّ لساني شهدةٌ يهتدى به *** وهوّ على من صبّه اللّه علقم على أن همدان تشدد واو هو كما في البيت، وياء هي؛ ولم يمثل له. وهو في هذا البيت: البسيط والنّفس ما أمرت بالعنف آبيةٌ *** وهيّ إن أمرت باللّطف تأتمر وهمدان، بفتح الهاء وسكون الميم والدال مهملة: قبيلة من اليمن، وهو لقب، واسمه أوسلة بن ربيعة بن لحيان بن مالك بن زيد بن كهلان. وهمدان وصف من الهمدة، وهي السكتة. وهمدت أصواتهم: سكتت. وشهدة بضم الشين: العسل بشمعه. قال ابن هشام في شرح شواهده: هذا البيت أورده الفارسي في التذكرة عن قطرب والبغداديين، وفيه أربعة شواهد: أحدها تشديد واو هو. الثاني: تعليق الجار بالجامد لتأويله بالمشتق، وذلك لأن قوله هو علقم مبتدأ وخبر، والعلقم هو الحنظل، وهو نبت كريه الطعم، وليس المراد هنا، بل المراد شديد وصعب، فلذلك علق به على المذكورة. ونظيره قوله: مخلع البسيط كلّ فؤادٍ عليك أمّ فعلق على بأم، لتأويله إياها بمشتق. وعلى هذا ففي علقم ضمير كما في قولك: زيد أسد، إذ أولته بقولك شجاع، إلا إذا أردت التشبيه. ومن تعلق الظرف بالجامد لما فيه من معنى الفعل قوله: الطويل تركت بنا لوحاً ولو شئت جادن *** بعيد الكرى ثلجٌ بكرمان ناصح منعت شفاء النّفس ممّن تركته *** به كالجوى مما تجن الجوارح لوحا بفتح أوله، أي: عطشا، يقال: لاح يلوح، أي: عطش. وبعيد: متعلق بثلج، لما فيه من معنى بارد، وإذا كان ريقها بارداً في وقت تغيره من نومها فما ظنك به في غير ذلك. وكرمان بالفتح: مدينة معروفة. وناصح: خالص. الثالث: جواز تقديم معمول الجامد المؤول بالمشتق، إذا كان ظرفاً. ونظيره في ذلك أيضاً في تحمل الضمير قوله: كلّ فؤادٍ عليك أمّ الرابع: جواز حذف العائد المجرور بالحرف مع اختلاف المتعلق، إذ التقدير وهو علقم على من صبه الله عليه. فعلى المذكورة متعلقة بعلقم، والمحذوفة متعلقة بصبه. وبهذين الوجهين الأخيرين أورده في مغني اللبيب. وأنشد بعده: الشاهد الثاني والثمانون بعد الثلاثمائة مجزوء الوافر رميتيه فأقصدت *** وما أخطأت الرّمية على أن أبا علي قال: تلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء. قال أبو علي في الحجة في توجيه قراءة حمزة: وما أنتم بمصرخي: بكسر الياء المشددة من سورة إبراهيم عليه السلام: والأكثر أن يقال رميته بكسر التاء دون ياء؛ كما قال أقصدت بدون ياء. وأقصدت: بمعنى قتلت. قال صاحب الصحاح: وأقصد السهم، أي: أصاب فقتل مكانه. وأقصدته حية: قتلته. قال الأخطل: الطويل فإن كنت قد أقصدتني ورميتني *** بسهميك فالرّامي يصيد ولا يدري أي: ولا يختل. انتهى. وهذه رواية أبي علي في كتابه الهاذور. ورواه في الحجة: رميته فأصمت. قال صاحب الصحاح: وأصميت الصيد، إذا رميته فقتلته وأنت تراه. وقد صمى الصيد يصمي، كرمى يرمي، إذا مات وأنت تراه. والرمية: فاعل أخطأت، وسكن آخره للقافية. وروى: وما أخطأت في الرّمية بالخطاب أيضاً. وبعده: بسهمين مليحين *** أعارتكيهما الظّبية وأعارتكيهما مثل رميتيه بزيادة الياء من إشباع الكسرة. كذا أنشد البيتين أبو حيان في تذكرته عن أبي الفتح بن جني. وأنشد بعده: الشاهد الثالث والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل فبتّ لدى البيت العتيق أريغه *** ومطواي مشتاقان له أرقان على أن بني عقيل، وبين كلاب يجوزون تسكين الهاء، كما في قوله له بسكون الهاء. والذي نقله ابن السراج في الأصول، وابن جني في الخصائص والمحتسب وغيرهما أن تسكين الهاء لغة لأزد السراة. وجعله ابن السراج من قبيل الضرورة عندهم. قال: وقد جاء في الشعر حذف الواو والياء الزائدة في الوصل مع الحركة، كما هي في الوقف سواء. قال رجل من أزد السراة: فظلت لدى البيت العتيق أخيله ***............. البيت وكذلك يشعر كلام أبي علي في المسائل العسكرية حيث قال: هذا من إجراء الوصل مجرى الوقف. وأما قوله: البسيط ما حجّ ربّه في الدّنيا ولا اعتمرا فهذا خارج عن حد الموقف والوصل جميعاً، والصواب أنه لغة لا ضرورة وإليه ذهب ابن جني في موضعين من الخصائص قال في الموضع الأول، وهو باب تعارض السماع والقياس: ومما ضعف في القياس والاستعمال جميعاً بيت الكتاب: الوافر له زجلٌ كأنّه صوت حادٍ *** إذا طلب الوسيقة وزمير فقوله: كأنه خلس بحذف الواو وتبقية الضمة، ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال. ووجه ضعف قياسه أنه ليس على حد الوصل، ولا على حد الوقف، وذلك أن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه، كما تمكنت في قوله أول البيت: له زجل، والوقف يجب أن تحذف الواو والضمة فيه جميعاً، وتسكن الهاء، فضم الهاء بغير واو منزلة بين منزلتي الوصل والوقف. وقال أبو إسحاق في نحو هذا: إنه أجري في الوصل مجرى الوقف. وليس الأمر كذلك، لما بيناه، لكن ما أجرى من نحو هذا في الوصل على حد الوقف قول الآخر: فظلت لدى البيت العتيق أخيله ***............. البيت على أن أبا الحسن حكى أن سكون الهاء في نحو هذا لغة لأزد السراة. ومثل هذا البيت ما رويناه عن قطرب قول الشاعر: البسيط ؟وأشرب الماء ما بي نحوه عطش *** إلاّ لأنّ عيونه سيل واديها وقال مثله في سورة الأعراف من المحتسب. وقال في الموضع الثاني، وهو باب الفصيح: يجتمع في الكلام الفصيح لغتان فصاعداً من ذلك قوله: فظلت لدى البيت الخ، فهذان لغتان، أعني إثبات الواو في أخيله، وتسكين الهاء في قوله: له؛ لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة. وإذا كان كذلك فهما لغتان. وليس إسكان الهاء في له عن حذف لحق بصيغة الكلمة، لكن ذلك لغة. وأما قول الشماخ: له زجل كأنّه صوت حادٍ ***.............. البيت فليس هذا لغتين، لأنا لا نعلم رواية حذف هذه الواو وإبقاء الضمة. قبلها، فينبغي أن يكون ذلك ضرورة وصنعة، لا مذهباً ولا لغة. انتهى. تتمة ذكر الشارح المحقق حذف واو الصلة ويائها، ولم يذكر حذف الألف من نحو رأيتها. قال ابن جني في سر الصناعة: أما الألف في نحو: رأيتها فزيدت علماً للتأنيث. ومن حذف الواو من نحو: كأنه صوت حاد، ومن نحو: له أرقان؛ لم يقل في نحو: رأيتها، ونظرت إليها إلا بإثبات الألف، وذلك لخفة الألف وثقل الواو. إلا أنا روينا عن قطرب بيتاً حذفت فيه هذه الألف، تشبيهاً بالواو والياء، لما بينهما وبينها من النسبة. وهو قوله: البسيط أعلقت بالذّئب حبلاً ثمّ قلت له *** الحق بأهلك واسمل أيّها الذّيب إمّا تقود به شاةً فتأكله *** وأن تبيعه في بعض الأراكيب يريد: تبيعها، فحذف الألف. وهذا شاذ. انتهى. وقوله: فبت بات من أخوات كان، التاء اسمها، وجملة: أريغه خبرها. وبات يفعل كذا معناه اختصاص ذلك الفعل بالليل، كما اختص الفعل بالنهار في نحو: ظل يفعل كذا، ومنه تعرف ضعف الرواية الأخرى، وهي فظلت لدى البيت بفتح الظاء وأصله ظللت بلامين، فخفف بحذف إحدى اللامين. وهي من أخوات كان أيضاً. قال الخليل: لا تقول العرب ظل إلا لعمل يكون بالنهار. ولدى: بمعنى عند. والبيت العتيق: مكة شرفها الله تعالى. والعتيق: الشريف والأصيل، ولأنه عتق من الطوفان. وروى: البيت الحرام بمعنى الممنوع، من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول. يقال: البيت الحرام، والمسجد الحرام. والبلد الحرام، أي: لا يحل انتهاكه. وأريغه: بمعنى أطلبه، يقال: أرغت الصيد. وماذا تريغ، أي: ماذا تريد، وهو بالراء المهملة والغين المعجمة. ويقال: أريغوني إراغتكم، أي: اطلبوني طلبتكم. قال خالد بن جعفر بن كلاب في فرسه حذفة: الوافر أريغوني إراغتكم فإنّي *** وحذفة كالشّجا تحت الوريد وقال عبيد بن الأبرص يرد على امرئ القيس: الوافر أتوتد أسرتي وتركت حجر *** يريغ سواد عينيه الغراب وقال زهير بن أبي سلمى في ابنه سالم: الطويل يديرونني عن سالمٍ وأريغه *** وجلدة بين العين والأنف سالم وهذا المصراع الثاني أراد عبد الملك في جوابه عن كتاب الحجاج: أنت عندي كسالم: وقد أخطأ صاحب الصحاح خطأ فاحشاً في قوله: يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم. وأخطأ ابن خلف أيضاً في شرح أبيات سيبويه في نسبة هذا البيت لعبد الله ابن عمر، قاله في ابنه سالم، والصواب أنه تمثل به، لا أنه قاله. وأخطأ صاحب العباب أيضاً في زعمه أن هذا البيت لدارة أبي سالم، والصواب أنه تمثل به أيضاً، فإن البيت من أبيات لزهير بن أبي سلمى ثابتة في ديوانه. قال شارح ديوانه: كان لزهير ابن يقال له سالم، جميل الوجه، حسن الشعر، وبعث إليه رجل ببردين، فلبسهما الفتى، وركب فرساً له جيداً، وهو بماء يقال لها النتاءة، بضم النون بعدها مثناة فوقية بعدها ألف ممدودة ماء لغني، فمر بامرأة من العرب، فقالت: ما رأيت كاليوم رجلاً ولا بردين ولا فرساً!! فعثرت به الفرس، فاندقت عنقه وعنق الفرس، وانشق البردان، فقال زهير يرثي ابنه سالماً: رأت رجلاً لاقى من العيش غبطةً *** وأخطأه فيها الأمور العظائم وشبّ له فيها بنون وتوبعت *** سلامة أعوامٍ له وغنائم فأصبح محبوراً ينظّر حوله *** بمغبطةٍ لو أنّ ذلك دائم وعندي من الأيّام ما ليس عنده *** فقلت تعلّم أنّما أنت حالم لعلّك يوماً أن تراعي بفاجع *** كما راعني يوم النّتاءة سالم يديرنني عن سالمٍ وأريغه *** وجلدة بين العين والأنف سالم انتهى. وروى جماعة بدل أريغه: أخيله بالخاء المعجمة، يقال: أخلت السحابة وأخيلتها، إذا رأيتها مخيلةً للمطر، بضم الميم، أي: تخيل من رآها أنها ممطرة. وهو من خال، أي: ظن. ومخيلة أيضاً، أي: موضع لأن يخال فيها المطر. كذا قال المعري في شرح ديوان البحتري. وأنشد هذا البيت. وروى صاحب الأغاني، وعلي بن حمزة البصري بدله: أشيمه، يقال: شام البرق، إذا نظر إليه، أي: إلى سحابته أين تمطر. والهاء في الروايات الثلاث ضمير البرق في بيت قبله. وقوله: ومطواي هو مثنى مطو، حذفت نونه عند الإضافة إلى ياء المتكلم. قال علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة: المطو بكسر الميم وضمها: الصاحب. وأنشد هذا البيت وقول الشاعر: الطويل علام تقول الأسعدان كلاهم *** ومطوهما كبشٌ بذروة معبر وقال صاحب الصحاح: مطو الشيء بالكسر: نظيره وصاحبه. وأنشد: البسيط ناديت مطوي وقد مال النّهار بهم *** وعبرة العين جارٍ دمعها سجم وقال رجل من أزد السراة يصف برقاً: الطويل فظلت لدى البيت العتيق أخيله *** ومطواي مشتاقان له أرقان أي: صاحباي. انتهى. وقوله: مشتاقان خبر مطواي. وكذلك أرقان، وضمير له للبرق أيضاً. وروى صاحب الأغاني، ومحمد بن حمزة العلوي في حماسته: ومطواي من شوقٍ له أرقان وعليه لا شاهد فيه، فأرقان خبر مطواي ومن تعليلية متعلقة بأرقان، وهو مثنى أرق بكسر الراء، وهو وصف من الأرق بفتحها، بمعنى السهر. وهذا البيت من قصيدة ليعلى الأحول الأزدي، مطلعها في رواية أبي عمرو الشيباني: أويحكما يا واشيي أمّ معمرٍ *** بمن وإلى من جئتما تشيان بمن لو أراه عانياً لفديته *** ومن لو رآني عانياً لفداني ارقت لبرقٍ دونه شدوان *** يمانٍ وأهوى البرق كلّ يمان فبتّ لدى البيت الحرام أشيمه *** ومطواي من شوقٍ له أرقان إذا قلت شيماه يقولان والهوى *** يصادف منّا بعض ما تريان إلى أن قال بعد أربعة أبيات: ألا ليت حاجات اللّواتي حبستني *** لدى نافعٍ قضّين منذ زمان وما بي بغضٌ للبلاد ولا قلّى *** ولكنّ شوقاً في سواه دعاني فليت القلاص الأدم قد وخدت بن *** بوادٍ يمان في رباً ومحان بوادٍ يمان ينبت السّدر صدره *** وأسفله بالمرخ والشّبهان يدافعنا من جانبيه كلاهم *** غريفان من طرفائه هدبان وليت لنا بالجوز واللّوز غيلةً *** جناها لنا من بطن حلية جاني وليت لنا بالدّيك مكّاء روضةٍ *** على فننٍ من بطن حلية داني وليت لنا من ماء زمزم شربةً *** مبرّدة باتت على طهيان الواشي: النمام، وشى يشي وشياً. والعاني: الأسير. وشدوان، بفتح الشين المعجمة والدال، قال أبو عبيد في المعجم: هو موضع ذكره أبو بكر. ونافع: والي مكة، كان حبس الشاعر. والقلاص: جمع قلوص، وهي الناقة الشابة. والأدم: جمع أدماء. والأدمة في الإبل: البياض الشديد. ووخدت: أسرعت. ورباً: جمع ربوة. ومحان: جمع محنية: بفتح الميم وكسر النون، وهو موضع انحناء الوادي. والمرخ: شجر سريع الوري. والشبهان بفتح الشين المعجمة وضم الموحدة وفتحها: شجر شائك، وقيل: هو النمام من الرياحين. والغريف، بالغين المعجمة: الشجر الكثير الملتف، أي شجر كان. والهدب بفتح فكسر: الشجر الذي له هدب بفتحتين، وهو كل ورق ليس له عرض، كورق الأثل والطرفاء والسرو. والغيلة، بكسر الغين المعجمة: ثمرة الأراك الرطبة. تمنى أن يأكل الغيلة بدل الجوز واللوز. وحلية: بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بعدها مثناة تحتية، قال أبو عبيد في المعجم: أجمة باليمن معروفة، وهي مأسدة. وقوله: وليت لنا بالديك، أي: بدل الديك. وطهيان بفتح الطاء والهاء والمثناة التحتية، وهو جبل. يريد أيضاً بدلاً من ماء زمزم. وهذا البيت يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حروف الجر في الشاهد الخامس والسبعين بعد السبعمائة. ويعلى الأزدي، بفتح المثناة التحتية وسكون العين المهملة واللام بعدها ألف مقصورة. قال الأصبهاني في الأغاني: يعلى الأحول الأزدي، هو ابن مسلم ابن أبي قيس، أحد بني يشكر بن عمرو بن رالان. ورالان هو يشكر. ويشكر لقب لقب به ابن عمران بن عمرو بن عدي بن حارثة بن لوذان بن كهف الظلام - هكذا وجدته بخط المبرد - ابن ثعلبة بن عمرو بن عامر. شاعر إسلامي لص، من شعراء الدولة الأموية. وقال هذه القصيدة وهو محبوس بمكة عند نافع بن علقمة الكناني، في خلافة عبد الملك بن مروان. قال أبو عمرو الشيباني: كان يعلى الأحول الأزدي لصاً فاتكاً، وكان خليعاً يجمع صعاليك الأزد وخلعاءهم، فيغير بهم على أحياء العرب، ويقطع الطريق على السابلة، فشكيي إلى نافع بن علقمة بن محرث الكناني ثم الفقيمي، وهو خال مروان بن عبد الملك، وكان والي مكة، فأخذ به عشيرته الأزديين، فلم ينفعه ذلك واجتمع إليها شيوخ الحي، فعرفوه أنه خليع قد تبرؤوا منه ومن جرائره إلى العرب، وأنه لو أخذ به سائر الأزد ما وضع يده في أيديهم. فلم يقبل ذلك منهم، وألزمهم إحضاره، وضم إليهم شرطاً يطلبونه إذا طرق الحي يجيئونه به، فلما اشتد عليهم في أمره طلبوه حتى وجدوه، فأتوه به فقيده وأودعه الحبس، فقال في محبسه هذه القصيدة. كذا قال المبرد، وعمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه. قال الشيباني: ويقال إنها لعمرو بن أبي عمارة الأزدي، من بني خنيس. ويقال إنها لجواس بن حيان، من أزد عمان. والله أعلم. وأنشد بعده: الشاهد الرابع والثمانون بعد الثلاثمائة البسيط وما نبالي إذا ما كنت جارتن *** أن لا يجاورنا إلاّك ديّار على أن وقوع الضمير المتصل بعد إلا شاذ، والقياس وقوعه بعدها منفصلاً نحو: أن لا يجاورنا إلا إياك ديار. وإنما استحق النصب لأنه استثناء مقدم على المستثنى منه وهو ديار. وإنما استحق الفصل مع أنه معمول لإلا على الصحيح، لأن نحو: ما لقيت إلا إياك، معمول للفعل بالاتفاق فلا يصح اتصاله بغير عامله، ثم حمل عليه غير المفرغ ليجريا على سنن واحد. وإنما سهل وصله في الضرورة لثلاثة أمور: أحدها: أن الأصل في الضمير الاتصال. الثاني: أن الأصل في الحرف الناصب للضمير أن يتصل به؛ نحو: إنك، ولعلك. الثالث: أجرى إلا مجرى غير أختها فأجريت مجراها في الوصف بها. وزعم ابن مالك في شرح التسهيل أن الفصل في البيت ليس بضرورة، لتمكن الشاعر من أن يقول: أن لا يكون لنا خلّ ولا جار وإذا فتح هذا الباب لم يبق في الوجود ضرورة، وإنما الضرورة عبارة عما أتى في الشعر على خلاف ما عليه النثر، كذا قال ابن هشام في شرح شواهده. وهذا البيت أنشده الفراء في تفسيره ولم يعزه إلى أحد. قال شارح اللب: ورواية البصريين: أن لا يجاورنا حاشاك ديّار قال صاحب الكشاف: ديار من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما في الديار ديار، وديور، كقيام وقيوم. وهو فيعال من الدور، ومن الدار، أصله ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد؛ ولو كان فعالاً لكان دوار. وقال ابن الحاجب في أمالي المفصل: معناه إذا حصلت مجاورتك فانتفاء مجاورة كل أحد مغتفرة غير مبال بها؛ لأن مجاورتك هي المقصودة دون جميع المجاورات. وأن لا يجاورنا في موضع مفعول، إما على تقدير حذف حرف جر، كقولك: ما باليت بزيد، وعلى التعدي بنفسه كقولك: ما باليت زيداً. وديار فاعل ليجاورنا. انتهى. وقول العيني إلا هنا بمعنى غير، فاسد يظهر بالتأمل. وهذا البيت قلما خلا عنه كتاب نحوي. والله أعلم بقائله. وأنشد بعده: الشاهد الخامس والثمانون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س: الهزج كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا على أن إيانا فصل من عامله لوقوعه بعد معنى إلا، وهو شاذ. قال سيبويه في باب من أبواب المضمر: هذا باب ما يجوز في الشعر من أيا ولا يجوز في الكلام. فمن ذلك قول حميد الأرقط: إليك حتّى بلغت إيّاكا وقال الآخر، لبعض اللصوص: كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا انتهى. قال الأعلم: الشاهد في وضع إيانا موضع الضمير المتصل في نقتلنا، وفي وضع إياك موضع الكاف ضرورة. وقال الزجاج: أراد بلغتك إياك، فحذف الكاف ضرورة. وهذا التقدير ليس بشيء، لأنه حذف المؤكد وترك التوكيد مؤكداً لغير موجود، فلم يخرج من الضرورة إلا إلى أقبح منها. والمعنى: سارت هذه الناقة إليك حتى بلغتك. انتهى. وقبله: أتتك عنسٌ تقطع الأراكا والعنس، بسكون النون: الناقة الشديدة، أي: تقطع الأراضي التي هي منابت للأراك. وكان حق الكلام في البيت الشاهد أن يقول نقتل أنفسنا، لأن الفعل لا يتعدى فاعله إلى ضميره، إلا أن يكون من أفعال القلوب، لا تقول: ضربتني، ولا أضربني، ولا ضربتك بفتح التاء، ولا زيد ضربه على إعادة الضمير إلى زيد، ولكن تقول: ضربت نفسي، وضربت نفسك، وزيد ضرب نفسه. وإنما تجنبوا تعدي الفعل إلى ضمير فاعله كراهة أن يكون الفاعل مفعولاً في اللفظ، فاستعملوا في موضع الضمير النفس، نزلوها منزلة الأجنبي، واستجازوا ذلك في أفعال العلم والظن الداخلة على جملة الابتداء فقالوا: حسبتني في الدار، ولم يأت هذا في غير هذا الباب إلا في فعلين قالوا: عدمتني وفقدتني. ولما لم يمكن هذا الشاعر أن يقول: نقتل أنفسنا ولا نقتلنا، وضع إيانا موضع نا، وحسن ذلك قليلاً أن استعمال المتصل ها هنا قبيح أيضاً، وأن الضمير المنفصل أشبه بالظاهر، المتصل، فإيانا أشبه بأنفسنا من نا. ولكن أقبح منه قول حميد: إليك حتّى بلغت إيّاكا لأن اتصال الكاف ببلغت حسن. والبيت من أبيات لذي الإصبع العدواني، وهي: لقينا منهم جمع *** فأوفى الجمع ما كانا كأنّا يوم قرّى *** إنّما نقتل إيّانا قتلنا منهم كلّ *** فتىً أبيض حسّانا يرى يرفل في بردين *** من أبراد نجرانا كذا في أمالي ابن الشجري. ولم يرو ابن الأعرابي في أماليه البيت الأول، وأنشد بعد نجران: إذا يسرح ضأناً م *** ائةً أتبعها ضانا وقوله: فأوفى الجمع الخ، هو فعل ماض من الوفاء، ويجوز أن يريد فأوفى بما كان عليه، فحذف وأوصل. ويجوز أن يريد فوفى الجمع الذي لقيناه، ما كان عليه أن يفعله من الإقدام على قتالنا. وقوله: كأنا يوم قرى الخ، بضم القاف وتشديد الراء المهملة بعدها ألف مقصورة. قال أبو عبيد البكري وياقوت في معجمهما: قرى: موضع في بلاد بني الحارث بن كعب. وزاد أبو عبيد: وقال أبو حنيفة الدينوري: قرى: ماءة قريبة من تبالة، وتبالة بفتح المثناة الفوقية بعدها باء موحدة بعدها لام، على وزن فعالة: بلد، وهي التي يضرب بها المثل، فيقال: أهون من تبالة على الحجاج، أبو اليقظان: هي أول عمل وليه الحجاج، وهي بلدة صغيرة من اليمن، فلما قرب منها قال للدليل: أين هي؟ قال: تسترها عنك هذه الأكمة. قال: أهون علي بعمل بلدة تسترها عني أكمة! وكر راجعاً. قال ابن الشجري: ومعنى قوله كأنا نقتل إيانا، تشبيه المقتولين بنفسه وقومه في الحسن والسيادة، فلذلك وصفه بما بعده: أي: هم سادة يلبسون أبراد اليمن، فكأننا بقتلنا إياهم قتلنا أنفسنا. انتهى. وقال ابن الأعرابي: أي: لا ينبغي أن نقتل منهم لنفاستهم، ولكن ألجئونا إلى ذلك. وقال الأعلم: وصف قوماً أوقعوا ببني عمهم، فكأنهم بقتلهم قاتلون أنفسهم. وقوله: كل فتى أبيض حسانا هم بضم الحاء وتشديد السين: وصف بمعنى الكثير الحسن، كالطوال بمعنى المفرط في الطول، والكبار بمعنى المفرط في الكبر. والبياض هنا: نقاء العرض عن كل ما يعاب به. وهذا البيت أورده سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة قال: حدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت: قتلنا منهم كلّ *** فتىً أبيض حسّانا فجعله وصفاً لكل. انتهى. فأبيض وحسان منصوبان على أنهما نعتان. ويجوز عندي أن يكونا صفتين لفتى، وفتحتهما نائبة عن الكسرة لأنهما ممنوعان من الصرف. وتبع ابن الشجري سيبويه فقال: نصب حسانا على الوصف لكل، ولو كان في نثر لجاز حسانين وصفاً لكل على معناها، لأن لفظها واحد ومعناها جمع. قال: يقال حسنة وحسن، فإذا بالغوا في الحسن قالوا: حسان وحسانة مخففان، فإذا أرادوا النهاية فيه قالوا: حسان وحسانة مشددان. وقوله: يرى يرفل الخ، الأول بالبناء للمفعول، يقال: رفل فلان في ثوبه، وذلك إذا طال الثوب على لابسه وجره في مشيه، ويفعلون ذلك تكبراً. ونجران: بلد باليمن ينسج فيها البرود الجيدة. وذو الإصبع العدواني: شاعر معمر من شعراء الجاهلية. قال أبو حاتم في كتاب المعمرين: عاش ذو الإصبع، وهو حرثان بن محرث، من عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، ثلثمائة سنة، وقال: البسيط أصبحت شيخاً أرى الشخصين أربعةً *** والشّخص شخصين لمّا مسّني الكبر لا أسمع الصّوت حتّى أستدير له *** ليلاً وإن هو ناغاني به القمر وإنما قال ليلاً، لأن الأصوات هادئة، فإذا لم يسمع بالليل والأصوات ساكنة كان من أن يسمع بالنهار مع ضجة الناس ولغطهم أبعد. وإنما قيل له ذو الإصبع، لأنه كانت له في رجله إصبع زائدة. وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء: ذو الإصبع حرثان بن عمرو، من عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وكان جاهلياً. وسمي ذا الإصبع لأن حيةً نهشت إصبعه فقطعها. انتهى. وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات: نسبه أحمد بن عبيد وغيره. فقالوا: هو حرثان بن الحارث. والأصمعي يقول: ابن السموءل بن محرث بن شبابة بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان، وهو الحرث، بن عمرو بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. وإنما سمي ذا الإصبع، لأن أفعلى نهشت إبهام رجله فقطعها. ويقال: إنه كانت له إصبع زائدة. انتهى. وقال علم الهدى السيد المرتضى في أماليه غرر الفوائد ودد القلائد: ومن المعمرين ذو الإصبع العدواني، واسمه حرثان بن محرث بن الحارث بن ربيعة بن وهب ابن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان، وهو الحارث، بن عمرو ابن قيس بن عيلان بن مضر. وإنما سمي الحارث عدوان لأنه عدا علي أخيه فهم فقتله. وقيل: بل فقأ عينه. وقيل: إن اسم ذي الإصبع محرث بن حرثان، وقيل حرثان بن حويرث، وقيل حرثان بن حارثة. ويكنى أبا عدوان. وسبب لقبه بذي الإصبع أن حية نهشته على إصبعه فشلت فسمي بذلك. ويقال: إنه عاش مائة وسبعين سنة. وقال أبو حاتم: إنه عاش ثلثمائة سنة. وهو أحد حكام العرب في الجاهلية. ثم أورد السيد جملاً من أحواله إلى أن أورد هذه الحكاية. وأوردها الزجاجي أيضاً في أماليه الصغرى بسندهما إلى سعيد بن خالد الجدلي، أنه قال: لما قدم عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير دعا الناس إلى فرائضهم، فأتيناه، فقال: ممن القوم؟ فقلنا: من جديلة. فقال: جديلة عدوان؟ قلنا: نعم. فتمثل عبد الملك: الهزج عذير الحيّ من عدو *** ن كانوا حيّة الأرض بغى بعضهم بعض *** فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السّاد *** ات والموفون بالقرض ثم أقبل على رجل كنا قدمناه أمامنا، جسيم وسيم، فقال: أيكم يقول هذا الشعر؟ فقال: لا أدري. فقلت من خلفه: يقوله ذو الإصبع. فتركني وأقبل على ذلك الجسيم، فقال: وما كان اسم ذي الإصبع؟ فقال: لا أدري. فقلت أنا من خلفه: اسمه حرثان. فأقبل عليه وتركني. فقال: لم سمي ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري. فقلت أنا من خلفه: نهشته حية على إصبعه. فأقبل عليه وتركني. فقال: من أيكم كان؟ فقال: لا أدري. فقلت أنا من خلفه: من بني ناج. فأقبل على الجسيم فقال: كم عطاؤك؟ فقال: سبعمائة درهم. ثم أقبل علي فقال: كم عطاؤك؟ فقلت: أربعمائة درهم. فقال لكاتبه حط من عطاء هذا ثلثمائة وزدها في عطاء هذا. فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائة. وأورد له من شعره قوله: الطويل أكاشر ذا الضّغن المبيّن منهم *** وأضحك حتّى يبدو النّاب أجمع وأهدنه بالقول هدناً ولو يرى *** سريرة ما أخفي لبان يفزّع ومعنى أهدنه أسكنه. ومنه قوله: الوافر إذا ما الدّهر جرّ على أناسٍ *** شراشره أناخ بآخرينا فقل للشّامتين بنا أفيقو *** سيلقى الشّامتون كما لقينا ومعنى الشراشرة هنا الثقل. يقال: ألقى علي شراشره وجراميزه، أي: ثقله. ومن قوله أيضاً: الكامل ذهب الذين إذا رأوني مقبل *** هشّوا إليّ ورحّبوا بالمقبل وهم الذين إذا حملت حمالةً *** ولقيتهم فكأنّني لم أحمل والحمالة بالفتح: تحمل دية القتيل عن القاتل. وحرثان بضم الحاء المهملة وسكون الراء بعدها ثاء مثلثة. ومحرث بكسر الراء المشددة على زنة اسم الفاعل. وعدوان بفتح العين وسكون الدال المهملتين. والسموءل بفتح السين والميم وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة ولام. وشبابة بفتح الشين المعجمة بعدها موحدتان خفيفتان. وعياذ بكسر العين المهملة بعدها مثناة تحتية وآخره ذال معجمة. والظرب بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء المشالة. وفهم بفتح الفاء وسكون الهاء وثالثه ميم، وهو أخو عدوان. وأنشد بعده: تراكها من إبلٍ تراكها وتقدم شرحه مستوفى في الشاهد الحادي والستين بعد الثلاثمائة: وأنشد بعده: الشاهد السادس والثمانون بعد الثلاثمائة: البسيط ضمنت إيّاهم الأرض هذا قطعة من بيت وهو: بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت *** إيّاهم الأرض في دهر الدّهارير على أن فصل الضمير ضرورة، والقياس ضمنتهم الأرض. كذا أنشده ابن الشجري في أماليه وقال: ومثله في القبح ضمير الرفع. قال طرفة: الكامل أصرمت حبل الوصل بل صرمو *** يا صاح بل قطع الوصال هم وأنشده شراح الألفية وابن هشام في شواهده أيضاً بتقديم الباعث على الوارث. والأنسب الرواية الأولى. والباء في قوله بالوارث متعلقة بحلفت في بيت متقدم، وهو: إنّي حلفت ولم أحلف على فندٍ *** فناء بيتٍ من السّاعين معمور وقوله: ولم أحلف على فند الجملة حال من التاء في حلفت. والفند، بفتح الفاء والنون: الكذب. وفناء البيت: ساحته، وهو بكسر الفاء بعدها نون، وهو ظرف لقوله حلفت. وأراد بالبيت، بيت الله الحرام، زاده الله شرفاً. ومن متعلقة بمعمور. والساعين: الذين يسعون إليه من جميع البلاد. ومعمور صفة لبيت. والوارث والباعث: اسمان من أسماء الله الحسنى، أقسم بهما. والوارث: الذي يرجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. والباعث: هو الذي يبعث الخلق، أي: يحييهم بعد الموت يوم القيامة. وضمنت: بكسر الميم بمعنى تضمنت عليهم، أي: اشتملت عليهم، وبمعنى كفلت، كأنها تكلفت بأبدانهم. والأرض: فاعل ضمنت. والدهر: الزمان. ودهر الدهارير: الزمان السالف، وقيل أول الأزمنة السالفة. وإذا قيل دهر دهارير بالصفة فمعناه شديد، كما يقال: ليلة ليلاء. قال ابن هشام: والأموات إما منصوب بالوارث على أن الوصفين تنازعاه، وأعمل الثاني والأول لا ضمير فيه، وإما مخفوض بإضافة الأول والثاني، على حد قوله: المنسرح بين ذراعي وجبهة الأسد وأما قوله: قد ضمنت إياهم الأرض، فهو، إما حال من الأموات ووصف لها، لأن أل فيها للجنس. والبيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها يزيد بن عبد الملك ويهجو يزيد بن المهلب: وقبله: يا خير حيٍّ وقت نعلٌ له قدم *** وميّتٍ بعد رسل اللّه مقبور إنّي حلفت ولم أحلف على فندٍ *** فناء بيتٍ من السّاعين معمور في أكبر الحجّ حافٍ غير منتعلٍ *** من حالفٍ محرمٍ بالحجّ مصبور بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت *** إيّاهم الأرض في دهر الدّهارير إذا يثورون أفواجاً كأنّهم *** جراد ريحٍ من الأجداث منشور لو لم يبشّر به عيسى وبّينه *** كنت النّبيّ الذي يدعو إلى النّور فأنت إن لم تكن إيّاه صاحبه *** مع الشّهيدين والصّدّيق في السّور والفند، بفتح الفاء والنون: الكذب. والمصبور: الذي صبر نفسه على أفعال الحج، أي: حبسها. وقوله: إذا يثورون، متعلق بالباعث، يريد: كأنهم جراد نشرته الريح وفرقته. ومنشور كان حقه الرفع، لأنه نعت لجراد، ولكنه خفضه على المجاورة. وقوله: لو لم يبشر به الخ، هذا جواب القسم، وفيه مبالغة فاحشة. وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين. وأنشد بعده: الشاهد السابع والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل وإنّ أمرأً أسرى إليك ودونه *** من الأرض موماةٌ وبيداء سملق لمحقوقةٌ أن تستجيبي لصوته *** وأن تعلمي أن المعان موفّق على أن الكوفيين أجازوا ترك التأكيد بالمنفصل في الصفة الجارية على غير من هي له، إن أمن اللبس، فإن قوله: لمحقوقة خبر عن اسم إن، وهو في المعنى للمرأة المخاطبة، ولم يقل لمحقوقة أنت. وأقول: الظاهر من كلام ابن الشجري في أماليه ومن كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف ومن كلام غيرهما، أن مذهب الكوفيين جواز ترك التأكيد مطلقاً، سواء أمن اللبس أم لا. قال ابن الأنباري: احتج الكوفيون لمذهبهم بالشعر المتقدم، وبقوله: الوافر ترى أرباقهم متقلّديه *** كما صدئ الحديد على الكماة ولو كان إبراز الضمير واجباً لقال متقلديها هم، فلما لم يبرز الضمير دل على جوازه. وأجاب البصريون عن هذا بأنه على حذف مضاف، أي: ترى أصحاب أرباقهم متقلديها. وعن الأول بجوابين: أحدهما: ما نقله ابن الشجري عن أبي علي، وهو أنه ليس في قوله محقوقة ضمير، لأنه مسند إلى المصدر الذي هو أن تستجيبي، فالتقدير لمحقوقة استجابتك، فجعل التأنيث في قوله لمحقوقة للاستجابة للمرأة، حتى إنه لو قال: لمحقوق بالتذكير لجاز، لأن تأنيث الاستجابة غير حقيقي. وحاصله أن المصدر المؤول نائب الفاعل لقوله محقوقة. وإلى هذا ذهب ابن هشام في شرح شواهده. والجواب الثاني ما ذكره ابن الأنباري، بأن قوله أن تستجيبي مبتدأ مؤخر ومحقوقة خبر مقدم، والجملة خبر اسم إن، والرابط الضمير في لصوته. ويحتمل هذين الجوابين ما نقله السكري في كتاب التصحيف قال: أخبرني أبي، قال: أخبرنا عسل بن ذكوان قال: قال أبو عثمان المازني: سألني الأصمعي لم أنث محقوقة؟ قلت: لأنه موضع مصدر مؤنث، لأن معناه استجابتك لصوته؛ وأن تستجيبي هي استجابتك. فلم يرد علي شيئاً. وأجاب صاحب اللباب بأن هذا لضرورة الشعر، ولم يرتض الجوابين المذكورين. قال فيما أملاه على اللباب: قوله لمحقوقة إنما جرى على غير من هو له، لأن التقدير وإن امرأً محقوقة بالاستجابة. لا يقال جاز أن يكون أن تستجيبي فاعلى محقوقة، ومبتدأ خبره محقوقة مقدماً، لأنه يقال: زيد حقيق بالاستجابة، فيسند إلى الذات، ولا يقال الاستجابة حقيقة بزيد. ولذلك يتأول قوله تعالى: {حقيقٌ علَى أن لا أقول}، كما هو مذكور في الكشاف. وأجاز شارحه الفالي ما منعه، وأجاب عما أورده فقال: ويمكن أن يقال إن قوله أن تستجيبي مبتدأ مؤخر ومحقوقة خبر مقدم، والجملة خبر إن، فقد جرت على من هي له. ومحقوقة بمعنى جديرة. يقال: أنت حقيق أن تفعل كذا، وزيد حقيق به، ومحقوق به، أي: خليق له. وكان حقه أن يسند إلى الذات فيقال: زيد حقيق بالاستجابة، لا أن الاستجابة حقيقة بزيد. ونظير ذلك ما استشكل من قوله تعالى: {حَقيقٌ علَى أنْ لا أقولَ على اللَّهِ إلاَّ الحق} فيمن قرأ بغير تشديد الياء من علي. وتأول بتأويلات أحدها: أنه على القلب، والثاني: أن ما لزمك فقد لزمته. والثالث: أن المراد حقيق على ترك القول إذ أكون أنا قائله، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به. والبيت الأول من هذين البيتين قد أنشده الشارح في الشاهد الرابع بعد المائتين، من باب الحال، وتقدم الكلام عليه مع أبيات من أول القصيدة هناك. والقصيدة للأعشى ميمون. وقبله: وخرقٍ مجوفٍ قد قطعت بجسرةٍ *** إذا خبّ آلٌ وسطه يترقرق هي الصّاحب الأدنى وبيني وبينه *** مجوفٌ علافيٌّ وقطعٌ ونمرق وتصبح من غبّ السّرى وكأنّم *** ألمّ بها من طائف الجنّ أولق وإنّ امرأً أسرى إليك ودونه ***.................... البيتين وكم دونه من حزنٍ قفٍّ ورحلةٍ *** وسهبٍ به مستوضح الآل يبرق وأصفر كالحنّاء ذاوٍ جمامه *** متى ما يذقه فارط القوم يبصق به تنفض الأحلاس في كلّ منزلٍ *** وتعقد أطراف الحبال وتطلق وإنّ عتاق العيس سوف يزوركم *** ثناءٌ على أعجازهنّ معلّق ولا بدّ من جارٍ يجير سبيله *** كما سلك السّكّيّ في الباب فيتق قوله: وخرق بفتح الخاء المعجمة: الفقر والأرض تنخرق فيها الرياح، وهو مجرور برب المقدرة بعد الواو. والجسرة، بفتح الجيم وسكون السين المهملة: الناقة القوية على السير. وخب بمعنى خدع. والآل: السراب في أول النهار ووسطه، ويترقرق أي: ينصب خبره، والجملة صفة آل، والعائد الضمير. يقال: رقرق الماء وغيره، إذا صبه رقيقاً. والسراب هكذا يرى للناظر إليه. وقوله: هي الصاحب الخ، الأدنى: الأقرب. والمجوف بالجيم: الرحل. والعلافي منسوب إلى علاف، بكسر المهملة، وهو رجل من قضاعة كان يعمل الرحال. والقطع، بكسر القاف: طنفسة، أي: بساط يجعله الراكب تحته ويغطي كتفي البعير. والنمرق: الوسادة، وهي هنا وسادة فوق الرحل. وقوله: وتصبح من غب الخ، الغب بالكسر: عاقبة الشيء. وألم بمعنى نزل، وفاعله أولق، وهو الجنون. يريد: أنها شديدة جداً لا يحصل لها إعياء كالمجنون. وقوله: وإن امرأً أسرى الخ، هذا انتقال من وصف ناقته إلى خطاب امرأة. وأراد بالمرء نفسه. وأسرى: لغة في سرى. ودونه بمعنى أمامه وقدامه. والموماة، بفتح الميم: الأرض التي لا ماء فيها. والبيداء: القفر. والسملق: الأرض المستوية. وهذا البيت روي في ديوانه وغيره من كتب الأدب كذا: وإنّ امرأً أهداك بيني وبينه *** فيافٍ تنوفاتٌ ويهماء سملق فالمراد من المرء ممدوحه، والخطاب لناقته المذكورة. وكان ممدوحه أهداها له، فالكلام على هذه الرواية من أوله إلى هنا خطاب لناقته. ومنه يظهر أن المناسب في الرواية الأولى أيضاً كون المراد بالمرء ممدوحه والخطاب لناقته، وأن أسرى بمعنى حمل على السرى، وإلى بمعنى على، ليكون الكلام على وتيرة واحد. وفياف: جمع فيفاء، وهي الفلاة. وتنوفات: جمع تنوفة، وهي القفر، واليهماء بفتح المثناة التحتية: الأرض التي لا يهتدى فيها. وروي: خيفق بدل سملق بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية وفتح الفاء، وهي الفلاة الواسعة. وقوله: أن المعان موفق كلاهما اسم مفعول من الإعانة والتوفيق. قال السيد المرتضى في أماليه: فيه قلب، يريد أن الموفق معان. وقال المرزباني في الموشح: ينبغي للشاعر أن يتفقد مصراع كل بيت حتى يشاكل ما قبله، فقد جاء من أشعار القدماء ما تختلف مصاريعه، كقول الأعشى: وأن تعلمي أن المعان موفّق غير مشاكل لما قبله. وكذلك قال صاحب تهذيب الطبع. وقوله: وكم دونه الخ، الضمير للمرء. والحزن، بالفتح: الأرض الوعرة. والقف بضم القاف: ما ارتفع من الأرض. والسهب بالفتح: الفلاة والأرض المتسعة. وقوله: وأصفر كالحناء يعني ماءً أصفر كالحناء. وذاو: متغير. والجمام بكسر الجيم: جمع جم بفتحها، وهو الماء الكثير، وفارط القوم، بالفاء، هو الذي يتقدمهم إلى الورد لإصلاح الحوض والدلاء. يقال: فرط القوم يفرطهم فرطاً، إذا تقدمهم لما ذكرنا. وإنما يبصق عند ذوقه لمرارة الماء وتغيره. وقوله: به تنفض الخ، الحلس بكسر المهملة: كساء على ظهر البعير تحت البرذعة ويبسط في البيت تحت حر الثياب. وإنما تنفض للرحيل. وقوله: وإن عتاق العيس الخ، هذا المعنى أول من اخترعه الأعشى، وأخذه من جاء بعده. قال القطامي: الكامل لأعلّقنّ على المطيّ قصائد *** أذر الرّواة بها طويلي المنطق وقال نصيب: الطويل فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله *** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ومن هنا أخذ أبو العتاهية قوله: الكامل فإذا وردن بنا وردن خفائف *** وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا وقوله: ولا بد من جار الخ، الجار له معان، والمراد هنا المجير، ويقال أيضاً للمستجير وللحليف، وللناصر، وللمجاور الذي أجرته من أن يظلم. والسكي، بفتح السين المهملة وتشديد الكاف والياء، وهو المسمار، ويقال له السك أيضاً بدون الياء. والفيتق، بفتح الفاء وسكون المثناة التحتية وفتح المثناة الفوقية: النجار، والحداد. وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد الثامن والثمانون بعد الثلاثمائة الوافر فلا تطمع أبيت اللّعن فيه *** ومنعكها بشيءٍ يستطاع على أن ما بعد الضمير المجرور إذا كان أنقص تعريفاً جاز فيه الانفصال والاتصال، فإنه كما جاز منعكها يجوز منعك إياها. وكاف المخاطب محلها الجر بإضافة المصدر إليها وهو المنع، وضمير الغائب أنقص تعريفاً من ضمير المخاطب. قال ابن هشام في شواهده: هذا مما اتفق على أن فصله أرجح. وأورده ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية على أن هذا أعني وصل ثاني ضميرين عاملهما اسم واحد ضعيف، والقياس ومنعك إياها. كذا نقل العيني عنهما هذا. والمنقول في اللغة أن منع مما يتعدى إلى المفعول الثاني تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر، يقال: منعتك كذا، ومنعتك عن كذ ومن كذا. ففي تصوير الفصل ينبغي أن يقيد المفعول الثاني بحرف الجر. وفاعل المصدر هنا محذوف، أي: منعيك عنها. والهاء ضمير راجع لسكاب، وهو اسم فرس. والباء في قوله: بشيء زائدة في خبر المبتدأ الذي هو منعكها. وبه استشهد ابن هشام في المغني. قال ابن جني في إعراب الحماسة: قد جاء زيادة الباء في الخبر، ألا ترى إلى قول أبي الحسن في قول الله تعالى: {جزاءٌ سيِّئةٍ بمثله} إن تقديره جزاء سيئة سيئة مثلها اعتباراً لقوله عز اسمه: وجَزاء سَيئةٍ سَيِّئةٌ مثلُها فكأنه قال: ومنعكها شيء يستطاع، أي: أمر مطاق غير باهظ ولا معجز، أي: فاله عنها ولا تعلق فكرك بها. ويجوز وجه آخر، وهو أن يريد: ومنعكها بمعنىً من المعاني مما يستطاع، وذلك المعنى إما غلبة ومعازة، وإما بفداء نفديها به منك، وغير ذلك، فيكون المعنى قريباً من الأول إلا أنه ألين جانباً منه. فالباء على هذا متعلقة بنفس المنع. ويجوز أيضاً أن تعلق بيستطاع، أي: يستطاع بمعنى من المعاني ويقدر عليه به. وهذا البيت آخر أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة. ونسبها إلى رجل من بني تميم وقد طلب منه ملك من الملوك فرساً يقال لها سكاب، فمنعه إياها، وقال: أبيت اللّعن إنّ سكاب علقٌ *** نفيسٌ لا يعار ولا يباع مفدّاةٌ مكرّمةٌ علين *** يجاع لها العيال ولا تجاع سليلة سابقين تناجلاه *** إذا نسبا يضمّهما الكراع فلا تطمع أبيت اللّعن فيه ***............. البيت وكفّي تستقلّ بحمل سيفي *** وبي ممّن تهضّمني امتناع وحولي من بني قحفان شيبٌ *** وشبّانٌ إلى الهيجا سراع إذا فزعوا فأمرهم جميعٌ *** وإن لاقوا فأيديهم شعاع وقوله: أبيت اللعن الخ، أي: أبيت الأمر الذي تلعن عليه، إذا فعلته. قال المرزوقي في شرح الحماسة: أبيت اللعن: تحية كان يستعطف به الملوك وأصل اللعن الطرد. قال الشاعر: مجزوء الكامل ولكلّ ما نال الفتى *** قد نلته إلاّ التّحيّة يعني إلا أن يقال لي: أبيت اللعن لأنه تحية الملوك، وكأنه قال: نلت كل شيء إلا الملك. وأصل اللعن: الطرد. وسكاب: فرس، إذا أعربته منعته الصرف لأنه علم، فلحصول التعريف فيه والتأنيث مع كثرة الحروف يمنع الصرف، والشاعر تميمي وهذه لغة قومه. وإذا بنيته على الكسر أجريته مجرى حذام لأنه مؤنث معدول معرفة. فلمشابهته هذه الأوصاف دراك ونزال بني، وهذه اللغة حجازية. واشتقاق سكاب من سكبت إذا صببت. ويقال في صفة الفرس بحر وسكب. وقوله: علق نفيس أي: مال يبخل به، وهذا كما يقال هو علق مضنة بالكسر. يقول: إن فرسي نفيس لا يبذل للإعارة، ولا يعرض للبيع. وقوله: مفداة مكرمة الخ، يقول: هي لعزتها على أربابها تفدى بالآباء والأمهات، وتؤثر تكريماً لها على العيال، عند الإضاقة والإقتار، فيجوع العيال، ولا تجوع هذه. وقوله: سليلة الخ، يقول: هي ولد فرسين سابقين، إذا نسبا ضم مناسبهما الكراع، وهو بالضم فحل كريم معروف. وأصل الكراع أنف يتقدم من الجبل، فسمي هذا الفحل به لعظمه. وسليلة ألحق الهاء بها، وإن كان فعيل في معنى مفعول، لأنه جعل اسماً، كما تقول هي قتيلة بني فلان. ومعنى سل نزع. ويقال: نجلا ولدهما وتناجلاه بمعنى واحد، ومنه النجل بمعنى الولد: وفيها عزّةٌ من غير نفرٍ *** نحيّدها إذ حرّ القراع وقوله: وفيها عزّة الخ، نحيّدها: بالحاء المهملة، أي: نجعلها حائدة. وحرّ بالمهملتين؛ أي: اشتدّ. والقراع: مصدر قارعه، أي: ضاربه. وقوله: فلا تطمع الخ، قال المرزوقي: يقول: ارفع طمعك في تحصيل هذه الفرس، أبيت أن تأتي ما تستحق به اللعن، ودفعك عنها يقدر عليه بوجه ما وبحيلة ما. والمعنى إني لا أسعفك بها أن استوهبتها، ما وجدت إلى الرد طريقاً فلا تطمع ما دامت لي هذه الحالة. وقوله: وكفي تستقل الخ، يقال: تهضم حقه، أي: ظلمه. وقحفان بضم القاف وسكون الحاء المهملة بعدها فاء. والشيب، بالكسر: جمع أشيب، وهو الذي حصل له الشيب. وقوله: إذا فزعوا الخ، الشعاع بفتح الشين: المتفرق. يقول: إن فزعوا من أمرٍ فكلمتهم واحدة، وإذا لاقوا العدو فأيديهم متفرقة عليه بالطعن والضرب. وعبيدة بن ربيعة: مصغر عبدة بالتأنيث، وهو شاعر فارس جاهلي. وأنشد بعده: الشاهد التاسع والثمانون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س: الطويل وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ *** لضغمهماها يقرع العظم نابها على أن الضمير الثاني إذا كان مساوياً للأول شذ وصله كما هنا، فإنه جمع بين ضميري الغيبة في الاتصال، وكان القياس لضغمهما إياها. قال سيبويه في باب إضمار المفعولين: إذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت أعطاهوها وأعطاهاه، جاز وهو عربي؛ ولا عليك بأيهما بدأت، من قبل أنهما كلاهما غائب. وهذا أيضاً ليس بالكثير في كلامهم، والكثير في كلامهم أعطاه إياها. على أن الشاعر قال: وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ ***............. البيت قال النحاس والأعلم: إنما كان وجه الكلام لضغمهما إياها، لأن المصدر لم يستحكم في العمل والإضمار استحكام الفعل. وجعل هنا من أفعال الشروع، ونفسي اسمها، وجملة تطيب خبرها. والضغمة بفتح الضاد وسكون الغين المعجمتين: العضة. وقد اختلف الناس في معنى هذا البيت، وأصوب من تكلم عليه ابن الشجري في أماليه في موضعين منها، وتبعه صاحب اللباب في تعليقه على اللباب قال: يقول: جعلت نفسي تطيب لأن أضغمهما ضغمة يقرع لها الناب العظم. وصف ضغمة بالجملة، والمصدر الذي هو الضغم مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف، التقدير: لضغمي إياهما. والهاء التي في قوله لضغمهماها عائدة إلى الضغمة؛ فانتصابها إذن انتصاب المصدر، مثلها في قوله تعالى: {إنّ هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة} وأضاف الناب إلى ضمير الضغمة، لأن الضغم إنما هو بالناب. واللام في قوله لضغمهماها متعلقة بيقرع، أي: يقرع عظمهما نابي؛ لضغمي إياهما ضغمة واحدة. وعلى هذا الضغمتان والقرع والناب جميعها للمتكلم، واللام الأولى متعلقة بقوله تطيب. وينبغي أن نورد الأبيات التي منها هذا البيت وسببها، حتى يتضح المعنى ويزول الإشكال، فإن غالب من تكلم عليه لم يقف على ما ذكرنا. قال أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب، وهو ما كتبه على نوادر ابن الأعرابي: إن مغلس بن لقيط؛ وهو من ولد معبد بن نضلة، كان رجلاً كريماً حليماً شريفاً، وكان له إخوة ثلاثة: أحدهم أطيط، بالتصغير، وكان أطيط به باراً، والآخران وهما مدرك ومرة مماظين، فلما مات أطيط أظهرا له العداوة، فقال: الطويل أبقت لك الأيّام بعدك مدرك *** ومرّة والدّنيا قليلٌ عتابها قرينين كالذّئبين يبتدرانني *** وشرّ صحابات الرّجال ذئابها وإن رأيا لي غرّةً أغريا به *** أعاديّ والأعداء كلبى كلابها إذا رأياني قد نجوت تلمّس *** لرجلي مغوّاةً هياماً ترابها وأعرضت أستبقيهما ثمّ لا أرى *** حلومهما إلاّ وشيكاً ذهابها لعلّ جوازي اللّه يجزين منهم *** ومرّ اللّيالي صرفها وانقلابها فيشمت بالمرأين مرءٌ تخطّي *** إليه قراباتٍ شديداً حجابها وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ *** أعضّهما ما يقرع العظم نابها ولا مثل يومٍ عند سعد بن نوفلٍ *** بفرتاج إذ توفي عليّ هضابها لأجعل ما لم يجعل اللّه لامرئٍ *** وأكتب أموالاً عداءً كتابها خرجت خروج الثّور قد عصبت به *** سلوقيّة الأنساب خضعٌ رقابها حبست بغمّى غمرةٍ فتركته *** وقد أترك الغمّى إذا ضاق بابها ثم رثى أطيطاً فقال: ذكرت أطيطاً والأداوى كأنّه *** كلىً من أديمٍ يستشنّ هزومها لعمري لقد خلّيتني ومواطن *** تشيب النّواصي لو أتاك يقينها وأبدت لي الأعداء بعدك منهم *** ثرى دمنٍ ما كان يبدو دفينها انتهى ما أورده أبو محمد. وقوله: والدنيا قليل عتابها أراد أن عتاب الدنيا غير نافع، فمعاتبها غير مستكثر منه. وقوله: قرينين كالذئبين شبههما بالذئبين، لأن الذئاب أخبث السباع. وقوله: وإن رأيا لي غرة الخ، روى بدله: إذا رأيا لي غفلةً أسّدا لها أي: أفسدا قلوب أعادي، حتى جعلا أخلاقهم كأخلاق الأسود. والكلبى: جمع كلب، كزمنى جمع زمن. وقوله: إذا رأياني قد نجوت الخ، تلمسا ألفه ضمير الاثنين، والمغواة، بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الواو: حفرة كالزبية. يقال: من حفر مغواةً وقع فيها. والهيام بفتح الهاء، لا بكسرها كما زعمه العيني، بعدها مثناة تحتية: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه. ونقل العيني عن أبي علي في التذكرة أن الرواية عنده هيالى ترابها قال: وهذا يدل على أن التراب جمع ترب، ولو كان مفرداً لقال: هائل ترابها. قال صاحب العين: الهائل: الرمل الذي لا يثبت. وضرب هذا مثلاً لكثرة معرفتهما بالشر والتحيل في جلب أنواع الضرر. وفرتاج، بفتح الفاء: موضع. والخضع: جمع أخضع، وهو الذي في عنقه تطامن خلقة. والغمرة بالفتح: الشدة، والغمى بفتح المعجمة وضمها: الغامة، أي: المهمة الملتبسة. وروى السيرافي بعد قوله هياماً ترابها: فلولا رجائي أن تؤوبا ولا أرى *** عقولكما إلاّ شديداً ذهابها سقيتكما قبل التفرّق شربةً *** يمرّ على باغي الظّلام شرابها وقد جعلت نفسي تطيب ***................. البيت والظلام، بالكسر: جمع ظلم بالضم. وقد أنشد البيت الشاهد أبو الحسن علي بن عيسى الربعي هكذا: فقد جعلت نفسي تهمّ بضغمةٍ *** على علّ غيظٍ يقصم العظم نابها والعل بفتح المهملة: التكرر. والقصم بالقاف: كسر مع فصل. وعلى هذا لا شاهد فيه، والمشهور الرواية الأولى. وقد اختلف العلماء في معناه فقال الخوارزمي: الضغمة: العضة، ولضغمهماها بدل من قوله لضغمة، والضمير الأول لسبعين وأما الثاني فلضغمة، والضمير في نابها لضغمة. يقول: لكثرة ما ابتليت به من المحن، قد طابت نفسي أن يعضني سبعان ناباهما يضربان العظم. وقرع الناب العظم كناية عن الصوت. هذا كلامه. وقال الأعلم: هذا الشاعر وصف شدةً أصابه بها رجلان، فيقول: قد جعلت نفسي تطيب لإصابتهما بمثل الشدة التي أصاباني بها. وضرب الضغمة مثلاً، ثم وصف الضغمة فقال: يقرع العظم نابها، فجعل لها ناباً على السعة. والمعنى: يصل الناب فيها إلى العظم فيقرعه. وقال الأندلسي في شرح المفصل: قيل إن معنى البيت أن نفسه طابت لإصابة الشدة، من أجل أن هذين القاصدين له بالشدة أصابتهما مثلها. وفي البيت إشكال، فإن الضغم عبارة عن الشدة، فإذا قدرت إضافتها إلى المفعول وهو الظاهر وجب أن يكون ضميرها فاعلاً في المعنى، فلا يستقيم لوجهين: أحدهما: أنها ليست من ضمائر الرفع. والآخر: أن ضمائر الرفع لا تأتي بعد ضمير المفعول، فالوجه أن يقال إن الضغم بمعنى الإصابة، أضيف إلى الفاعل الذي هو ضمير التثنية، ثم ذكر بعد ذلك المفعول، فكأنه قال: لإصابة هذه الشدة التي عبر عنها بالضغمة أولاً. هذا كلامه. ونقل ابن المستوفي عن حواشي المفصل أنه قال في الحواشي: هما عائدان للأسد والضبع، وقيل للأسد والذئب، وها للضغمة. ووجدت في موضع آخر من الحواشي قال: الضمير الأول يرجع إلى الذئب والضبع، والثاني إلى النفس. وهذا أشبه من الأول، إلا أنه مع وجود ما يعود إليه ضمير الاثنين من قوله قرينين كالذئبين، لا حاجة إلى أن يذكر ما ذكره من الأسد والضبع، والأسد والذئب؛ لعدم ذكرهما في الشعر. والذي أراه أن معنى البيت إن نفسي قد طابت أن تصيبها ضغمة بهذه الصفة لأجل ضغمهما إياها، إذ ليسا من نظرائي وأشكالي. فيكون موضع لام لضغمهماها نصب على أنه مفعول له، وموضع هما رفع بالفاعلية، وموضع ها نصب بالمفعولية. هذا كلامه. وقال ابن الحاجب في أماليه، ونقله شارح اللباب: يقول: طابت نفسي للشدة التي أصابتني لوقوع القاصد لي بها في أعظم منها. والضغمة عبارة عن الشدة، وهما اثنان قصداه بسوء فوقعا في مثل ما طلباه له. وجعل من أفعال المقاربة، ولضغمة معمول لتطيب إعمال الفعل في مفعوليه، وليست بمعنى المفعول من أجله، لأنه لم يرد أنها طابت لأجل الضغمة، وإنما طابت بها. والتعليل هو قوله لضغمهماها، أي: طابت نفسي لما أصابني من الشدة لإصابة من قصدني بمثلها. والضغمة: العضة فكنى بها عن المصيبة. ويقال: ضغم الشدة وضغمته. وجاء البيت على الوجهين، فقوله لضغمة من قولهم عضته الشدة، لقوله يقرع العظم نابها. وقوله: لضغمهماها من قولهم: عضضت الشدة، لأن الفاعل ها هنا ضمير من أصابها، وضمير المفعول ضميرها، أي: لضغمهما إياها، فهي معضوضة لا عاضة، لمجيئها مفعولةً لا فاعلة. ويجوز أن يكون الموضعان من ضغمت الشدة لا ضغمتني، ويكون قوله: يقرع العظم نابها مبالغةً في أنه عض الشدة عضاً قوياً بليغاً، منتهى ما يبلغه العض. وكنى ببلوغ الناب العظم عن ذلك. وموضع استشهاده مجيء الضميرين الغائبين متصلين وليس أحدهما فاعلاً وهما: ضمير الفاعلين، وهو قوله: هما، وضمير الضغمة وهو قولك: ها. وهو شاذ، والقياس في مثله ضغمهما إياها، كراهة اجتماع ضمائر الغائبين البارزة من جنس واحد، بخلاف ما لو اختلفا. والضمير الأول في موضع خفض بالإضافة، وهو فاعل في المعنى، والضمير الثاني في موضع نصب على المفعولية بالمصدر، أي: لأن ضغماها. ويقرع العظم نابها في موضع صفة، إما لضغمة الأولى وفصل للضرورة بالجار والمجرور الذي هو لضغمهماها، ويضعف لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي، وهو غير سائغ. وإما في موضع صفة لمعنى قولك ها، إذ معناه لضغمهما مثلها، إذ الأولى لم تصب هذين وإنما أصابهما مثلها؛ فهو في المعنى مراد. ومثل نكرة وإن أضيفت إلى المعرفة، فجاز أن توصف بالجملة. ويجوز أن يكون يقرع العظم نابها جملة مستأنفة لتبيين أمر الضغمة في الموضعين جميعاً، فلا موضع لها من الإعراب؛ لأنها لم تقع موقع مفرد. وما يتوهم من أن لضغمهماها مضاف إلى المفعول، وها في المعنى فاعل، فيؤدي إلى أنه أضاف إلى المفعول وأتى بعده بالفاعل بصيغة ضمير المنصوب، مندفع بما تقدم من أنه لم يرد أن الشدة عضت، وإنما أراد أنهما عضا الشدة، إذ لا يستقيم أن يضاف المصدر إلى المفعول ويؤتى بالفاعل بصيغة ضمير المنصوب باتفاق، فوجب حمله على ما ذكرناه، دفعاً لما يلزم مما أجمع على امتناعه. كلامه. وهذا كله مبني على خلاف التحقيق، ومنشؤه عدم الاطلاع على الأبيات وسببها، وكذلك قول بعض فضلاء العجم في شرح شواهد المفصل أن قوله لضغمهماها، بدل من قوله لضغمة. والضمير الأول في لضغمهماها للسبعين. وأما الثاني فقال صاحب التحبير، والإيضاح، لضغمة. ووافقهما في ذلك صاحب الإقليد، والموصل. وقال صاحب المقتبس: هو لنفسي. وتابعه في ذلك صاحب المقاليد. وقوله: لضغمهماها مصدر مضاف إلى الفاعل على الوجهين، إلا أن المفعول في الوجه الأول يكون محذوفاً وهو النفس، وفي الثاني يكون مذكوراً. هذا كلامه. وأغرب من هذا كله قول شارح اللب السيد عبد الله لضغمة مفعول تطيب على أنه مفعول به، لا مفعول له. وقوله: لضغمهماها، هو المفعول له. أي: جعلت تطيب لضغمة سبع يقرع العظم ناب تلك الضغمة، لضغمة هذين السبعين النفس. والمراد به أن ضغمة سبع واحد أهون من ضغمة سبعين. وقد لخص ابن هشام في شرح شواهده هذه الأقوال فقال: وفي معنى البيت وتوجيهه أوجه: أحدها: أن الضغمة الأولى له، والثانية لهما، أي: نفسه طابت لأن يوقع بهما مصيبة عظيمة لأجل ضغمهما إياه مثلها. واللام من لضغمة تتعلق بتطيب، وهي لام التعدية، واللام من لضغمهما متعلق بضغمة وبجعلت وبتطيب، وهي لام العلة. وضمير التثنية فاعل، وضمير المؤنث مفعول مطلق. والمعنى لضغمهما إياي ضغمةً مثلها، فحذف المفعول به والموصوف، وأناب عنه صفته، ثم حذف المضاف، وأناب عنه المضاف إليه، ووصله شذوذاً. الثاني: أن يكون المعنى كذلك، لكن يكون ضمير المؤنث عائداً على الصفة المتقدمة في اللفظ، والمراد غيرها، على حد قولهم: عندي درهم ونصفه. الثالث: أن الضغمتين كلتيهما من فعل المتكلم، أي: جعلت نفسي لأجل إيذائهما لي تطيب لإيقاع ضغمة بهما يقرع العظم نابها، لشدة ضغمهما إياها، فحذف المضافين: الشدة المضافة إلى الضغمتين، وياء المتكلم المضاف إليها الضغمتان، وهي فاعل المصدر. فاللام الأولى متعلقة بتطيب، والثانية متعلقة بيقرع. الرابع: أن الضغمتين للمتكلم، وأن الثانية على تقدير ياء المتكلم كما تقدم، ولكن الثانية بدل من الأولى بإعادة الجار. فاللامان للتعدية، والتقدير لأن أضغهمهما ضغمة يقرع العظم نابها. الخامس: أن الضغمة الأولى لأجنبي، والثانية لهما، أي: تطيب لأن يضغمني ضاغم ضغمةً يقرع العظم نابها لضغمهما إياي مثلها، كما تقول: طابت نفسي بالموت لما نالني من أذى فلان. واللام الأولى للتعدية والثانية للتعليل. وراجح الأوجه الثالث؛ لأن السيرافي روى: تهم بضغمة علي على غيظ، ولأن بعضهم روى: لغضمة أعضهماها. وضمير نابها راجع للضغمة إما على أنه جعل لها ناباً على الاتساع، والمراد صاحبها، وعلى أن التقدير ناب صاحبها ثم حذف المضاف. وقال ابن يسعون في شرح شواهد الإيضاح: استشهد به أبو علي على وقوع الضمير المتصل موقع المنفصل، لأن مجيء الضمير المنفصل مع المصدر أحسن، والمصدر هو لضغمهما، وهو مضاف إلى هما، وهما في المعنى فاعلان، والمفعول المضغوم محذوف. ولو ذكره مع ها المتصلة العائدة على ضغمة لقال: لضغمهماها إياي. ولو أتى بضمير الضغمة منفصلاً على الوجه الأحسن لقال: لضغمهما إياي إياها، فكان يتقدم لوجهين: أحدهما: لأنه ضمير المخاطب وهو أولى بالتقدم من ضمير الغائب. والوجه الثاني أن إياي ضمير المفعول به، وإياها ضمير المصدر، وهي فضلة مستغنىً بما هو آكد منها، وكان الأصل لضغمهما إياي مثلها، أي: مثل تلك الضغمة، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فكان ينبغي أن يأتي بالضمير المنصوب المنفصل. وحذف المفعول مع المصدر إذا كان معه الفاعل كثير، كما قد يحذف معه الفاعل أيضاً. هذا ما وقفت عليه. ومغلس بن لقيط: شاعر من شعراء الجاهلية، وهو بضم الميم وفتح الغين المعجمة وكسر اللام المشددة. ولقيط بفتح اللام وكسر القاف ومعبد بفتح الميم الموحدة وسكون العين المهملة. وكون الشعر لمغلس بن لقيط المذكور هو ما قاله الأعلم. قال: واسم هذا الشاعر مغلس بن لقيط الأسدي، والرجلان من قومه، وهما مدرك ومرة. وكذا قال السيرافي، لكنه قال: هو لمغلس بن لقيط الأسدي، من ولد معبد ابن نضلة، يعاتب فيه مدرك بن حصن، ومرة بن عداء، ويذكر أخاه أطيط بن لقيط. وقال العيني: هو المغلس بن لقيط بن حبيب بن خالد بن نضلة الأسدي، جاهلي، هو وأخواه بعثر ونافع ابنا لقيط شعراء، وهو من قصيدة هائية يرثي فيها أخاه أطيطاً، ويشتكي من قرينين له يؤذيانه. وقيل: هما ابنا أخيه، وهما مدرك ومرة. ونسب ابن الشجري في أماليه، وتبعه شارح اللباب، هذا الشعر إلى لقيط بن مرة، قال: رثى فيه أخاه أطيطاً، وهجا مرة بن عداء ومدرك بن حصن الأسديين. وقال ابن هشام في شرح شواهده: هو لمغلس بن لقيط السعدي لا الأسدي، وكان له ثلاثة أخوة: مرة، ومدرك، وأطيط وكان أبرهم به، فمات وأظهر الأخوان عداوته وآذياه، فقال يرثيه ويشتكي من أخويه، وقيل: هما ابنا أخيه المذكور، وقيل: أجنبيان. هذا ما وقفت عليه، والله أعلم بحقيقة الحال. وأنشد بعده: الشاهد التسعون بعد الثلاثمائة الطويل لئن كان إيّاه لقد حال بعدن *** عن العهد والإنسان قد يتغيّر على أن المختار في خبر كان وأخواتها إذا كان ضميراً، الانفصال كما هنا؛ لأنه خبر، والأصل في الخبر الانفصال. وقال بدر الدين في شرح ألفيه والده: الصحيح اختيار الاتصال لكثرته في النظم والنثر الفصيح. وهذا البيت من قصيدة لعمر بن أبي ربيعة، وقبله: ألكني إليها بالسّلام فإنّه *** يشهّر إلمامي بها وينكّر بآية ما قالت غداة لقيته *** بمدفع أكنان: أهذا المشهّر قفي فانظري أسماء هل تعرفينه *** أهذا المغيريّ الذي كان يذكر أهذا الذي أطريت ذكراً فلم أكن *** وعيشك أنساه إلى يوم أقبر فقالت: نعم لا شكّ غيّر لونه *** سرى اللّيل يحيي نصّه والتّهجّر لئن كان إيّاه لقد حال بعدن ***................. البيت قوله: ألكني، أي: كن رسولي وتحمل رسالتي إليها. وقوله: قفي أمر من الوقوف، والآمرة هي نعم محبوبة الشاعر. وأسماء: صاحبة نعم. وأسماء: منادىً بحرف النداء المحذوف. وروي أيضاً: قفي فانظري يا أسم وهو مرخم أسماء. وهذا على طريقته، فإنه كثيراً ما يتغزل بنفسه، زعماً منه أن المخدرات يعشقنه لحسنه وجماله، وقد عيب عليه. والهاء في تعرفينه ضمير الشاعر، وهو عمر، كما أن المغيري عبارة عنه. قال الخوارزمي: المغيري منسوب إلى المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو من أجداده. وقوله: وعيشك أنساه، الواو للقسم، والجملة معترضة بين لم أكن، وبين خبره، وهو جملة أنساه وسرى الليل فاعل غير، والتهجر معطوف عليه، وهو السير في الهاجرة. ويحيي مضارع معلوم من الإحياء، وفاعله ضمير المغيري، ونصه مفعوله. وقوله: قفي فانظري إلى آخر البيتين من مقول قالت. وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن البيتين من مقول الشاعر، فإنه قال: والمعنى قلت لحبيبتي أسماء قفي يا أسماء، فانظري، وتأملي هل تعرفين هذا الرجل الذي ترينه؟ يريد به نفسه. ولما قال ذلك توهمته فقالت متعجبة متفكرة لفرط تغيره: الذي تراه عمر المغيري الذي كان يذكر عندنا؟ والله لئن كان المغيري إياه لقد حال وتغير عما عهدناه، فإنه عهدناه شاباً وقد كبر، وعهدناه ناضراً طرياً وقد حال عن ذلك! ثم قال تسليةً له: والإنسان قد يتغير عن حال إلى حال، فلا تحزن. ويجوز أن يكون هذا مقول الشاعر، قال ذلك نفياً لتعجبها مما استعظمته من تغيره بعدها. أي: إن الإنسان يتغير فلا تتعجبي. وفيه ما لا يخفى. وقوله: لئن كان الخ، اللام موطئة للقسم، واسم كان ضمير المغيري وإياه خبرها، وجملة لقد حال الخ، جواب القسم المحذوف، وقد سد مسد جواب الشرط. وحال بمعنى تغير، من قولهم: حالت القوس، أي: انقلبت عن حالها التي عمرت عليها وحصل في قالبها اعوجاج. وبعدنا: متعلق بحال. وكذلك قوله: عن العهد، أي: عما عهدنا من شبابه وجماله. وجملة والإنسان قد يتغير حالية. ومثله قول كثير عزة: الطويل وقد زعمت أنّي تغيّرت بعده *** ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر وهذه القصيدة عدة أبياتها ثمانون بيتاً أوردها القالي في أماليه ومحمد بن المبارك بن محمد بن ميمون في منتهى الطلب من أشعار العرب. وقد أنشد المبرد أبياتاً منها في الكامل وقال: يروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس رضي الله عنه يوماً، فجعل يسأله حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك؟ فأنشده: الطويل أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر *** غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّر حتى أتمها وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه؟! فقال: تالله ما سمعت سفهاً. فقال ابن الأزرق: أما أنشدك: الطويل رأت رجلاً أيماً إذا الشّمس عارضت *** فيخزى وأمّا بالعشيّ فيخسر فقال: ما هكذا؟ قال: إنما قال: فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر قال: وتحفظ الذي قال؟ قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها. فأنشده إياها. وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط! فقال ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي. انتهى كلام المبرد. وفي هذه القصيدة أبيات شواهد في هذا الشرح وغيره، لا بأس بإيرادها هنا. وهي هذه: أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر *** غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّر بحاجة نفسٍ لم تقل في جوابه *** فتبلغ عذراً والمقالة تعذر نهيم إلى نعمٍ فلا الشّمل جامعٌ *** ولا الحبل موصولٌ ولا القلب مقصر ولا قرب نعمٍ إذ دنت لك نافعٌ *** ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر وأخرى أتت من دون نعم ومثله *** نهى ذا النّهى لو ترعوي وتفكّر إذا زرت نعماً لم يزل ذو قرابةٍ *** لها كلّما لاقيتها يتنمّر عزيزٌ عليه إن ألمّ ببيته *** مسرٌّ لي الشّحناء للبغض مظهر ألكني إليها بالسّلام فإنّه *** يشهّر إلمامي بها وينكّر على إنّها قالت غداة لقيته *** بمدفع أكنانٍ: أهذا المشهّر قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه *** أهذا المغيريّ الذي كان يذكر أهذا الذي أطريت نعتاً فلم أكن *** وعيشك أنساه إلى يوم أقبر لئن كان إيّاه لقد حال بعدن *** عن العهد والإنسان قد يتغيّر فقالت: نعم لا شكّ غيّر لونه *** سرى اللّيل يحيي نصّه والتّهجّر رأت رجلاً أمّا غذى الشّمس عارضت *** فيضحى وأمّا بالعشيّ فيخصر أخا سفرٍ جوّاب أرضٍ تقاذفت *** به فلواتٌ فهو أشعث أغبر قليلٌ على ظهر المطيّة ظلّه *** سوى ما نفى عنه الرّداء المحبّر وأعجبها من عيشها ظلّ غرفةٍ *** وريّان ملتفّ الحدائق أنضر ووالٍ كفاها كلّ شيءٍ يهمّه *** فليست لشيءٍ آخر اللّيل تسهر وليلة ذي دوران جشّمني السّرى *** وقد يجشم الهول المحبّ المغرّر فبتّ رقيباً للرّفاق على شف *** أراقب منهم من يطوف وأنظر إليهم متى يستأخذ النّوم فيهم *** ولي مجلسٌ لولا اللّبانة أوعر وباتت قلوصي بالعراء ورحله *** لطارق ليلٍ ولمن جاء معور فبتّ أناجي النّفس أين خباؤه *** وأنّي لما تأتي من الأمر مصدر فدلّ عليها القلب نارٌ عرفته *** بها وهوى الحبّ الذي كان يظهر فلمّا فقدت الصّوت منهم وأطفئت *** مصابيح شبّت بالعشاء وأنور وغاب قميرٌ كنت أهوى غيوبه *** وروّح رعيانٌ ونوّم سمّر ونفّضت عنّي النّوم أقبلت مشية ال *** حباب ولكنّي من القوم أزور فحيّيت إذ فاجأتها فتولّهت *** وكادت بمرفوع التّحيّة تجهر فقالت وعضّت بالبنان فضحتني *** وأنت امرؤٌ ميسور أمرك أعسر أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف *** رقيباً وحولي من عدوّك حضّر فقلت كذاك الحبّ قد يحمل الفتى *** على الهول حتّى يستقاد فينحر فو اللّه ما أدري أتعجيل حاجةٍ *** سرت بك أم قد نام من كنت تحذر فقلت لها بل قادني الحبّ والهوى *** إليك وما نفسٌ من النّاس تشعر فقالت وقد لانت وأفرخ روعه *** كلاك بحفظٍ ربّك المتكبّر فأنت أبا الخطّاب غير منازعٍ *** عليّ أميرٌ ما مكثت مؤمّر فبتّ قرير العين أعطيت حاجتي *** أقبّل فاها في الخلاء فأكثر فيا لك من ليلٍ تقاصر طوله *** وما كان ليلي قبل ذلك يقصر ويالك من ملهىً هناك ومجلسٍ *** لنا لم يكدّره علينا مكدّر يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّجٌ *** نقيّ الثّنايا ذو غروبٍ مؤشّر يرفّ إذا تفترّ عنه كأنّه *** حصى بردٍ وأقحوانٌ منوّر وترنو بعينيها إليّ كما رن *** إلى ظبيةٍ وسط الخميلة جؤذر فلمّا تقضّى اللّيل إلاّ أقلّه *** وكادت توالي نجمه تتغوّر أشارت بأنّ الحيّ قد حان منهم *** هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزور فما راعني إلاّ منادٍ تحمّلو *** وقد شقّ معروفٌ من الصّبح أشقر فلمّا رأت من قد تنوّر منهم *** وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر فقلت: أباديهم فإمّا أفوتهم *** وإمّا ينال السّيف ثأراً فيثأر فقالت أتحقيقٌ لما قال كاشحٌ *** علينا وتصديقٌ لما كان يؤثر فإن كان ما لا بدّ منه فغيره *** من الأمر أدنى للخفاء وأستر أقصّ على أختيّ بدء حديثن *** وما بي من أن تعلما متأخّر لعلّهما أن تبغيا لك مخرج *** وأن ترحبا سرباً بما كنت أحصر فقامت كئيباً ليس في وجهها دمٌ *** من الحزن تذري عبرةً تتحدّر فقالت لأختيها أعينا على فتىً *** أتى زائراً والأمر للأمر يقدر فأقبلتا فارتاعتا ثمّ قالت *** أقلّي عليك اللّوم فالخطب أيسر فقالت لها الصّغرى سأعطيه مطرفي *** ودرعي وهذا البرد إن كان يحذر يقوم فيمشي بيننا متنكّر *** فلا سرّنا يفشو ولا هو يظهر فكان مجنّي دون من كنت أتّقي *** ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر فلمّا أجزنا ساحة الحيّ قلن لي: *** أما تتّقي الأعداء واللّيل مقمر وقلن أهذا دأبك الدّهر سادر *** أما تستحي وترعوي وتفكّر إذا جئت فامنح طرف عينك غيرن *** لكي يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر على أنّني يا نعم قد قلت قولةً *** لها والعتاق الأرحبيّات تزجر هنيئاً لبعل العامريّة نشرها ال *** لذيذ وريّاها الذي أتذكّر فقمت إلى حرفٍ تخوّن نيّه *** سرى اللّيل حتّى لحمها يتحسّر وحبسي على الحاجات حتّى كأنّه *** بقيّة لوحٍ وشجارٌ مؤسّر وماءٍ بموماةٍ قليلٍ أنيسه *** بسابس لم يحدث بها الصيّف محضر به مبتنىً للعنكبوت كأنّه *** على شرف الأرجاء خامٌ منشّر وردت وما أدري أما بعد موردي *** من اللّيل أم ما قد مضى منه أكثر فطافت به مغلاة أرضٍ تخاله *** إذا التفتت مجنونةً حين تنظر تنازعني حرصاً على الماء رأسه *** ومن دون ما تهوى قليبٌ معوّر محاولةٌ للورد لولا زمامه *** وجذبي لها كادت مراراً تكسّر فلمّا رأيت الضّرّ منها وأنّني *** ببلدة أرضٍ ليس فيها معصّر قصرت لها من جانب الحوض منش *** صغيراً كقيد الشّبر وهو أصغر إذا شرعت فيه فليس لملتقى *** مشافرها منه قدى الكفّ مسأر ولا دلو إلاّ القعب كان رشاءه *** إلى الماء نسعٌ والجديل المضفّر فسافت وما عافت وما صدّ شربه *** عن الرّيّ مطروقٌ من الماء أكدر هذا آخر القصيدة. وقد شرح العيني ألفاظها اللغوية إجمالاً. وقوله: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت البيت، أورده الشارح المحقق في حروف الشرط من أواخر الكتاب؛ ويأتي إن شاء الله شرحه هناك. وقوله: فكان مجني دون من كنت أتقي. البيت، أورده أيضاً في باب العدد. وقوله: إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا البيت، أورده ابن هشام في المغني في حرف الكاف برواية: كما يحسبوا. وعمر بن ربيعة قد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثمانين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد الحادي والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س: مجزوء الرمل ليت هذا اللّيل شهرٌ *** لا نرى فيه عريبا ليس إيّاي وإيّ *** ك ولا نخشى رقيبا لما تقدم قبله من أن الفصل، هو المختار في خبر ان وأخواتها كما قال ليس إياي، ولو وصل لقال ليسني. قال سيبويه: ومثل ذلك كان إياه، لأن كانه قليلة، لا تقول: كانني وليسني، ولا كانك؛ فصارت غيا ها هنا بمنزلتها في ضربي إياك. قال الشاعر: ليت هذا الليل شهر الخ وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني، وكذلك كانني. قال الأعلم: الشاهد في إتيانه بالضمير بعد ليس منفصلاً، ولوقوعه موقع خبرها والخبر منفصل من المخبر عنه، فكان الاختيار فصل الضمير إذا وقع موقعه. واتصاله بليس جائز، لأنها فعل وإن لم تقو قوة الفعل الصحيح. وليس في هذا البيت تحتمل تقديرين: أحدهما أن تكون في موضع الوصف للاسم قبلها، كأنه قال: لا نرى فيه عربياً غيري وغيرك. والتقدير الآخر: أن تكون استثناء بمنزله غلا. وعريب بمعنى أحد، وهو بمعنى معرب، أي: لا نرى فيه متكلماً يخبر عنا ويعرب عن حالنا. وقوله: ليت هذا الليل شهر قال أبو القاسم سعيد الفارقي فيما كتبه في تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب للمبرد: وقد روي في شهر الرفع والنصب جميعاً؛ وهو عندي أشبه بمعنى البيت. وكلاهما حسن. وقد قضينا هذا في كتابنا تفسير أبيات كتاب سيبويه. ولم يظهر لي وجه النصب. ونرى من رؤية العين. وعريب من الألفاظ الملازمة للنفي، واسم ليس ضمير مستتر راجع إلى عريب، وإياي خبرها بتقدير مضاف، أي: ليس عريب غيري وغيرك، فحذف غير، وانفصل الضمير وقام مقامه في النصب. تمنى أن تطول ليلته بمقدار شهر. وجملة لا نرى فيه خبر ثان لليت. وجملة لا نخشى رقيباً معطوف عليه، والرابط محذوف، أي: فيه. ويجوز أن يكون جملة لا نرى صفةً لشهر. وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: يقول لحبيبته: ليت هذا الليل الذي نجتمع فيه طويل كالشهر، لا نبصر فيه أحداً ليس إياي وإياك، أي: ليس فيه غيري وغيرك أحد. وهو استثناء لنفسه كما قال إلاك، لا نحاف فيه رقيباً. وهذا الشعر نسبه خدمة كتاب سيبويه إلى عمر بن أبي ربيعة المذكور آنفاً. ونسبه صاحب الأغاني، وتبعه صاحب الصحاح إلى العرجي، وهو عبد الله بن عمر ابن عمرو بن عثمان بن عفان. نسب إلى العرج، وهو من نواحي مكة، لأنه ولد بها، وقيل بل كان له بها مال، وكان يقيم هناك. والله أعلم. وتقدمت ترجمة العرجي في الشاهد السادس من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد الثاني والتسعون بعد الثلاثمائة الرجز عددت قومي كعديد الطّيس *** إذ ذهب القوم الكرام ليسي على أنه جاء متصلاً. قال الزنجاني: هذا الشعر أنشده السيرافي، وفيه شذوذ من وجهين: الأول: أنه أتى بخبر ليس متصلاً. والثاني: أنه أسقط نون الوقاية، وحقه أن يقال: ليسني. وأنشده شراح الألفية على أن حذف نون الوقاية منه ضرورة. وكذلك حكم ابن هشام بأنه ضرورة، في قد، وفي النون من المغني وقال في شرح شواهده: والذي سهل ذلك مع الاضطرار أمور، أحدها: أن الفعل الجامد يشبه الأسماء، فجاء ليسي، كما تقول: غلامي وأخي، ومن ثم جاز: إن زيداً ليسي يقوم كما جاز لقائم، ولا يجوز إن زيداً لقام، وجاز أيضاً نحو: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، كما جاز: علمت أن زيداً قائم ولا يجوز: علمت أن قام ولا أن يقوم. والثاني: أن ليس هنا للاستثناء، فحق الضمير بعدها الانفصال، وإنما وصله للضرورة كقول الآخر: البسيط أن لا يجاورنا إلاّك ديّار والنون ممتنعة مع الفصل، فتركها مع الوصل التفاتاً إلى الأصل. الثالث: أن ليسي بمعنى غيري، ولا نون مع غير. واسم ليس هنا ضمير اسم الفاعل المفهوم من ذهب، والتقدير: ليس هو إياي، أي: ليس الذاهب إياي. وقال شارح أبيات الموشح: اسم ليس لمضمر يرجع إلى الكريم المستفاد من الكرام. وفيه ما لا يخفى. وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل: كذا أنشد العلماء هذا البيت. ويروى: عهدي بقومي كعديد الطّيس وهو الصحيح. وكذا أنشده الخليل في كتاب العين في مادة طيس لرؤبة، وقال: الطيس: العدد الكثير. وأنشد البيتين لرؤبة. واختلفوا في تفسير الطيس فقال بعضهم: هو كل ما على وجه الأرض من خلق الأنام. وقال بعضهم: بل هو كل خلق كثير النسل نحو النمل والذباب والهوام. وقال غيره: الطيس: الكثير من الرمل والماء وغيرهما. وأراد به رؤبة هنا الرمل. وكذلك أنشده ابن الأعرابي في نوادره: عهدت قومي. ورواه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: عهدي بقوم. وقال: أراد بقوم المنكر قومه، بدليل رواية قومي، واللام في القوم إشارة إليهم، وهذا من باب وضع الظاهر موضع المضمر، والأصل: إذ ذهبوا. وفائدته التوصل إلى وصفهم بالكرم. وقوله: عهدي بقوم مبتدأ خبره محذوف، وهو حاصل. وقوله: ليسي استثناء لنفسه من القوم الكرام الذاهبين. يفتخر بقومه، ويتحسر على ذهابهم، فيقول: عهدي بقومي الكرام الكثيرين مثل كثرة الرمل حاصل، إذ ذهبوا إلا إياي. فإني بقيت بعدهم خلفاً عنهم. ولا يبعد أن يريد قوماً غير كرام، فيكون المعنى: أرى قوماً كثيراً غير كرام، إذ ذهب الكرام غيري. كلامه. وهذا المعنى هو الظاهر دون الأول، وهو معنى قول العيني: والمعنى عددت قومي، وكانوا بعدد الرمل، ومع تلك الكثرة ما فيهم كريم غيري. وعليه فيكون العامل في إذ: عددت، وعهدت، وعهدي، على الروايات. وقال شارح أبيات الموشح: قوله: كعديد الطيس حال من قومي. وقوله: إذ ذهب ظرف ليسي. يقول: عهدي بقومي الكرام الكثيرين مثل كثرة الرمل حاصل، وليس فيهم الآن كريم غيري، إذ ذهب القوم الكرام وبقيت بعدهم خلفاً عنهم. هذا كلامه فتأمله. وقال العيني: عديد الطيس: صفة مصدر محذوف، تقديره عداً كعدد الطيس. والعديد بمعنى العدد. يقال: هم عديد الحصى والثرى في الكثرة. وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد الثالث والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س: الطويل فإن لا يكنه وتكنه فإنّه *** أخوها غذته أمّه بلبانها لما تقدم قبله من وصل الضمير المنصوب بكان؛ والقياس فإن لا يكن إياها، وتكن إياه. وأنشده سيبويه في أوائل كتابه في باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد، قال فيه: وتقول: كنا هم، كما تقول: ضربناهم، وتقول إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم كما تقول: إذا لم نضربهم فمن يضربهم. قال أبو الأسود الدؤلي: فإلاّ يكنه وتكنه فإنّه ***.............. البيت قال الأعلم: أراد سيبويه أن كان لتصرفها تجري مجرى الأفعال الحقيقة في عملها، فيتصل بها ضمير خبرها اتصال ضمير المفعول بالفعل الحقيقي في نحو ضربته وضربني وما أشبهه. وقبل هذا البيت: دع الخمر تشربها الغواة فإنّني *** رأيت أخاها مجزئاً لمكانها قال شراح أبيات سيبويه، وشراح أبيات أدب الكاتب: سبب هذا الشعر أن مولىً لأبي الأسود الدؤلي كان يحمل تجارة إلى الأهواز، وكان إذا مضى إليها تناول شيئاً من الشراب، فاضطرب أمر البضاعة، فقال أبو الأسود هذا الشعر، ينهاه عن شرب الخمر. فاسم يكنها ضمير الأخ وها ضمير الخمر، وهو خبر يكن، واسم تكنه ضمير الخمر، والهاء ضمير الأخ، وهو خبر تكن. وأراد بأخي الخمر الزبيب. يقول: دع الخمر ولا تشربها، فإني رأيت الزبيب الذي هو أخوها، ومن شجرتها مغنياً لمكانها، وقائماً مقامها، فإلا يكن الزبيب الخمر وتكن الخمر الزبيب، فإن الزبيب أخو الخمر غذته أمه بلبانها، يعني أن الزبيب شرب من عروق الكرمة، كما شرب العنب الذي عصر خمراً. وليس ثمة لبان وإنما هو استعارة. كذا قال جماعة، منهم الجواليقي، قال في شرح أبيات أدب الكاتب: نهاه عن شرب الخمر وقال له: إن الزبيب يقوم مقامها. فإن لم تكن الخمر نفسها من الزبيب، فهي أخته اغتذتا من شجرة واحدة. ومنهم ابن الأنبار في مسائل الخلاف قال: أراد بقوله أخاها الزبيب، وجعله أخا الخمر لأنهما من شجرة واحدة. ومنهم ابن هشام في شرح شواهده، قال: زعم مولى أبي الأسود أنه يشرب الخمر لحرارتها، فأمره بأكل الزبيب فإنه أخوها، أي: ارتضع معها من ثدي واحد، أي: إنه شرب من عروق الكرمة كما شرب العنب الذي هو أصلها. وقال جماعة: أراد بأخي الخمر نبيذ الزبيب، منهم الأعلم قال: وصف نبيذ الزبيب وأطلقه على مذهب العراقيين في الأنبذة، وحث على شربه وترك الخمر بعينها، للإجماع على تحريمها. وجعل الزبيب أصلاً للخمر لأن أصلهما الكرمة واستعار اللبان لما ذكره من الأخوة. ومنهم ابن السيد ف شرح أبيات أدب الكاتب قال: يعني بأخيها نبيذ الزبيب. يقول: إن لم يكن الزبيب الخمر، وتكن الخمر الزبيب، فإنهما أخوان غذيا بلبن واحد، ينوب أحدهما مناب الآخر. ومنهم صاحب فرائد القلائد. قال: إن أخاها نبيذ الزبيب، يريد به الماء الذي نبذ بزبيب ليصير حلواً من غير أن تشوبه حرمة، فإنه أخوها، إلا أنه حلال وهي حرام. وقد أنشده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قال: الخمر المجمع عليه، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر، وأن يكون في التحريم بمنزلتها، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه. وجعل كله حراماً قياساً على الميسر، والميسر إنما كان قماراً في الجزر خاصة. فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلته، وتأويل الخمر في اللغة أنه ما ستر على العقل، يقال: لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره خمر بالتحريك. وما ستره من شجر خاصة ضراً، مقصور. يقال: دخل في خمار الناس، أي: في الكثير الذي يستتر فيهم. وخمار المرأة قناعها، وإنما قيل له خمار لأنه يغطيها. والخمرة بالضم: التي يسجد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض. وقيل للعجين: قد اختمر، لأن فطورته قد غطاها الخمر أعني الاختمار. يقال: قد أخمرت العجين وخمرته وفطرته فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط عليه. وليس يقول أحد للشار إلا مخمور من كل مسكر؛ وبه خمار. فهذا بين واضح. وقد لبس على أبي الأسود الدؤلي، فقيل له: إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال، فظن أن ذلك كما قيل، ثم رده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد، فقال: دع الخمر يشربها الغواة ***................. البيتين وما ذكره خلاف المعنى الذي ذكره الجماعة. وقد وافقه في هذا المعنى أبو القاسم عبد الرحمن السعدي الأندلسي - وتوفي بمصر في سنة خمس وخمسين وخمسمائة - في كتاب مساوي الخمرة، وهو كتاب ضخم، وهو عندي في جلدين، قال فيه: وقد حرم الخمر والقمار والزنى على نفسه في الجاهلية عفيف بن معد يكرب الكندي بقوله: الوافر وقالت لي: هلمّ إلى التّصابي *** فقلت عففت عمّا تعلمينا وودّعت القداح وقد أراني *** لها في الدّهر مشغوفاً رهينا وحرّمت الخمور عليّ حتّى *** أكون بقعر ملحودٍ رهينا أنت ترى كيف تفهم ما في القمار من المشاركة للزنى والخمر في سوء الذكر. ولا ننس قوله: وحرمت الخمر فأتى بها بلفظ الجمع، إشارةً إلى اختلاف أجناسها، كالخمر المتخذة من ماء العنب، ونبيذ الزبيب والتمر والشعير والحنطة والعسل، وأمثال هذه، إذ الكل خمرو مختلفة الألوان والطعوم والأمزجة. وقد قال ابن شبرمة منبهاً على اشتراك هذه كلها في المعنى: يا أخلاّء إنّما الخمر ذيب *** وأبو جعدة الطّلاء المريب ونبيذ الزّبيب ما اشتدّ منه *** فهو للخمر والطّلاء نسيب وقال عبيد بن الأبرص: المتقارب وقالوا هي الخمر تكنى الطّلاء *** كما الذّئب يكنى أبا جعدة وقد قال أبو الأسود الدئلي: دع الخمر يشربها الغواة ***................... البيت فقيل له: فنبيذ الزبيب؟ فقال: فإلاّ يكنه وتكنه فإنّه *** أخوها غذته أمّه بلبانها وقوله: دع الخمر، أي: اترك. والغواة: جمع غاو، وهو الضال. وقوله: مجزئاً، قال ابن الأنباري في الزاهر، يقال: أجزأني الشيء يجزئني إذا كفاني. وأنشد هذا البيت، وروي بدله: مغنيا بمعناه. وقوله: فإلا يكنها الخ، الفاء للتفريع والتفسير، وإن شرطية، ولا نافية وتكنه معطوف على تكنها فهو منفي أيضاً، وجملة: فإنه أخوها جواب الشرط وجملة: غذته أمه الخ، لا محل لها من الإعراب، لأنها مفسرة للأخوة، كقوله تعالى: {إنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ اللَّهِ كمثل آدمَ خَلَقه مِنْ تُراب}، وقال العيني: هي خبر بعد خبر، ويجوز أن تكون حالاً من الهاء في أخوها، والعامل فيها إن. هذا كلامه. واللبان بكسر اللام، قال الأعلم: هو للآدميين، واللبن لغيرهم، وقد يكون جمع لبن في هذا الموضع. قال ابن السكيت: يقال هو أخوه بلبان أمه، ولا يقال: بلبن أمه، إنما اللبن الذي يشرب. قال الكميت يمدح مخلد بن يزيد: الرجز ترى النّدى ومخلداً حليفين *** كانا معاً في مهده رضيعين تنازعا فيه لبان الثّديين وقال الحريري في درة الغواص: اللبان: مصدر لابنه. قال ابن بري في حاشيته عليه: اللبان مصدر لابنه، أي: شاركه في اللبن، ليس بإجماع بل الأكثر على جواز غير ذلك. قال بعضهم: اللبان بمعنى اللبن، إلا أنه مخصوص بالآدمي، وأما اللبن فعام في الآدمي وغيره. وقال آخرون: اللبان جمع لبن. فمما جاء فيه اللبان للمشاركة في اللبن قولهم: هو أخوه بلبان أمه. كذا فسره يعقوب، أي: هو أخوه لمشاركته في الرضاع. وعليه قول الكميت المذكور. وقال أبو سهل الهروي: لبان هنا جمع لبن، وعلى قول غيره هو لغة في اللبن. وكذلك بيت أبي الأسود الدؤلي. كلامه. وترجمة أبي الأسود قد تقدمت في الشاهد الأربعين. وأنشد بعده: الشاهد الرابع والتسعون بعد الثلاثمائة السريع لولاك في ذا العام لم أحجج على أنه يجوز ورود الضمير المشترك بين النصب والجر على قلة بعد لولا. ولولا حرف جر عند سيبويه كما ذكره الشارح، ويأتي نص كلامه في البيت الذي بعد هذا. وأنشده الزمخشري في سورة ص مستشهداً به على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر. وهو عجز، وصدره: أومت بعينيها من الهودج وبعده: أنت إلى مكّة أخرجتني *** ولو تركت الحجّ لم أخرج وروي: حبّاً ولولا أنت لم أخرجه وهما من شعر عمر بن أبي ربيعة. وأومت: أشارت. والكاف في لولاك مفتوحة، كما أن التاء من أنت كذلك. خاطبته حبيبته ومنت عليه بتحمل المشاق لأجله. وزعم الخطيب التبريزي في شرح ديوان أبي تمام أن البيت الشاهد للعرجي المذكور آنفاً. ولم يوجد في ديوانه، والذي رواه العلماء أنه لعمر بن أبي ربيعة، وهو موجود في شعره. وسبب توهمه: أن للعرجي أبياتاً على هذا النمط رواها الزجاجي في أماليه الوسطى بسنده إلى إسحاق بن سعد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: كان العرجي، وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، يشبب بامرأة محمد ابن هشام. وقال غيره: إنه يشبب بامرأته الحارثية: السريع عوجي علينا ربّة الهودج *** إنّك إن لا تفعلي تحرجي أيسر ما قال محبٌّ لدى *** بين حبيب قوله عرّج يقض إليكم حاجةً ويقل *** هل لي ممّا بي من مخرج من حيّكم بنتم ولم ينصرم *** وجد فؤادي الهائم المنضج فما استطاعت غير أن أومأت *** بطرف عيني شادنٍ أدعج تذود بالبرد لها عبرةً *** جاءت بها العين ولم تنشج مخافة الواشين أن يفطنو *** بشأنها والكاشح المزعج أقول لمّا فاتني منهم *** ما كنت من وصلهم أرتجي إنّي أتيحت لي يمانيّةٌ *** إحدى بني الحارث من مذحج نمكث حولاً كاملاً كلّه *** لا نلتقي إلاّ على منهج في الحجّ إن حجّت وماذا منىً *** وأهله إن هي لم تحجج فقال عطاء: الكثير الطيب يا خبيث. وروى أيضاً صاحب الأغاني بسنده أن مما قال العرجي في الجيداء أم محمد بن هشام المخزومي، وهي من بني الحارث بن كعب: عوجي علينا ربّة الهودج الأبيات الأربعة. فلما سمع البيت الأخير عطاء بن أبي رباح قال: الخير والله كله في منى وأهله، حجت أم لم تحجج. قال: ولقي ابن سريح عطاءً في منىً، وهو راكب على بغلته، فقال له: سألتك بالله إلا وقفت لي حتى أسمعك شيئاً. قال: ويحك؟! دعني فإني عجل، فقال: امرأتي طالق إن لم تقف، مختاراً للوقوف، لأمسكن بلجام بغلتك، ثم لا أفارقها ولو قطعت يدي، حتى أغنيك وأرفع صوتي. فقال: هات وعجل، فغناه: في الحجّ إن حجّت وماذا منىً ***............... البيت فقال: الخير والله كله في منى وأهله، لا سيما وقد غيبها الله عن مشاعره، خل سبي البغلة. وقوله: نلبث حولاً كاملاً كله البيت، هو من شواهد الكوفيين استدلوا به على جواز توكيد النكرة المحدودة. وقد نقله عنهم ابن هشام في مغني اللبيب، ولأجله أوردت هذه الأبيات. وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين. وأنشد بعده: الشاهد الخامس والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س: الطويل وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى *** بأجرامه من قلّة النّيق منهوي لما تقدم قبله، قال سيبويه في باب ما يكون مضمراً فيه الاسم متحولاً عن حاله إذا أظهر بعده: وذلك لولاك ولولاي، إذا أمضر فيه الاسم جر وإذا أظهر رفع. ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت: لولا أنت، كما قال الله تعالى: {لولا أنتم لكُنَّا مؤمنين} ولكنهم جعلوه مجروراً. والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامة مضمر مرفوع، قال يزيد بن الحكم: وكم موطنٍ لولاي طحت ***................ البيت وهذا قول الخليل ويونس. وأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز: يا أبتا علّك وعساكا والدليل على أنها منصوبة إنك إذا عنيت نفسك، كان علامتك ني، قال عمران بن حطان: الوافر ولي نفسٌ أقول لها إذا م *** تنازعني لعلّي وعساني فلو كانت الكاف مجرورةً لقال: عساي، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع. فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال، كما كان للدن حال مع غدوة ليست مع غيرها، وكما أن لات إذا لم تعملها في الأحيان، لم تعملها فيما سواها، فهي معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها ليس لها عمل. ورأي أبي الحسن أن الكاف في لولاك في موضع رفع على غير قياس، كما قالوا: ما أنا كانت ولا أنت كأنا، وهذان علم الرفع، كذلك عساني. ولا يستقيم أن تقول: وافق الرفع الجر في لولاي كما وافقه النصب، إذ قلت معك وضربك؛ لأنك إذا أضفت إلى نفسك، فالجر مفارق للنصب في هذه الأشياء. ولا تقل وافق الرفع النصب في عساني، كما وافق النصب الجر في ضربك ومعك، لأنهما إذا أضفت إلى نفسك اختلفا. وزعم ناس أن موضع الياء في لولاي، وني في عساني، في موضع رفع، جعلوا لولاي موافقة للجر وني موافقة للنصب، كما اتفق النصب والجر في الهاء والكاف، وهذا وجه رديء لما ذكرت، ولأنك لا ينبغي أن تكسر الباب وهو مطرد، وأنت تجد له نظائر. وقد يوجه الشيء على الشيء البعيد، إذا لم يوجد له غيره. وربما وقع ذلك في كلامهم، وقد بين بعض ذلك وستراه فيما يستقبل إن شاء الله. هذا نص سيبويه برمته. قال الأعلم: الشاهد في هذا البيت إتيان ضمير الخفض بعد لولا التي يليها المبتدأ، ولما كان مبتدؤها محذوف الخبر أشبه المجرور لانفراده، والمضمر لا يتبين فيه الإعراب، فوقع مجروره موقع مرفوعه، والأكثر لولا أنت كالظاهر. ورد هذا المبرد وسفه قائله تحاملاً منه وتعسفاً. وقد رأيت كلام المبرد في الكامل فإنه بعد أن نقل كلام سيبويه قال: والذي أقول أن هذا خطأ، ولا يصلح إلا أن تقول لولا أنت، كما قال تعالى: {لولا أنتُمْ لكُنَّا مؤمنين}. ومن خالفنا يزعم أن الذي قلناه أجود ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده. وقد فصل ابن الشجري في أماليه الأقوال فقال في وقوع المضمر بعد لولا التي يرتفع الاسم بعدها بالابتداء: وللنحويين في ذلك ثلاثة مذاهب: فذهب سيبويه أن يرى إيقاع المنفصل المرفوع بعدها هو الوجه، كقولك: لولا أنت فعلت كذا. ولا يمتنع من إجازة استعمال المتصل بعدها كقولك: لولاي ولولاك ولولاه، ويحكم بأن المتصل بعدها مجرور بها فيجعل لها مع المضمر حكماً يخالف حكمها مع المظهر. ومذهب الأخفش أن الضمير المتصل بعدها مستعار للرفع، فيحكم بأن موضعه رفع بالابتداء وإن كان بلفظ المضمر المنصوب والمجرور. فيجعل حكمها مع المضمر موافقاً حكمها مع المظهر. ومذهب المبرد أنه لا يجوز أن يليها من المضمرات إلا المنفصل المرفوع. واحتج بأنه لم يأت في القرآن غير ذلك. ودفع الاحتجاج بهذا البيت وقال: إن في هذه القصيدة شذوذاً في مواضع، وخروجاً عن القياس، فلا معرج على هذا البيت. وأقول: إن الحرف الشاذ والحرفين والثلاثة، إذا وقع ذلك في قصيدة من الشعر القديم لم يكن قادحاً في قائلها، ولا دافعاً للاحتجاج بشعره. وقد جاء في شعر لأعرابي: لولاك في ذا العام لم أحجج وللمحتج لسيبويه أن يقول: إنه لما رأى الضمير في لولاي، ونحوه خارجاً عن حيز ضمائر الرفع، وليست لولا من الحروف المضارعة للفعل فتعمل النصب كحروف النداء، ألحقها بحروف الجر. وحجة الأخفش أن العرب قد استعارت ضمير الرفع المنفصل في قولهم: لقيتك أنت، وكذلك استعاروه للجر في قولهم: مررت بك أنت، أكدوا المنصوب والمجرور بالمرفوع. وأشذ منه إيقاعهم إياه بعد حرف الجر في قولهم: أنا كأنت، وأنت كأنا. فكما استعاروا المرفوع للنصب والجر كذلك استعاروا المنصوب للرفع في قولهم: لولاي ولولاك ولولاه. وقد نسب ابن الأنباري في مسائل الخلاف مذهب الأخفش إلى الكوفيين، وذكر حجج الفريقين، وصحح مذهب الكوفيين، ورد كلام سيبويه بأن قوله إن الياء والكاف لا يكونان علامة مرفوع غير مسلم؛ فإنه يجوز أن يستعار للمرفوع علامة المخفوض، كما يستعار له علامة المنصوب في نحو عساك. ثم قال: والذي يدل على أن لولا ليس بحرف خفض أنه لو كان كذلك لوجب أن يتعلق بفعل ومعنىً، وليس هنا ذلك. وقول البصريين إنه قد يكون الحرف في موضع مبتدأ لا يتعلق بشيء، قلنا: الأصل في حروف الخفض أن يجوز الابتداء بها، وأن تقع في موضع مفيد، وإنما جاء ذلك نادراً، في قولهم: بحسبك زيد وما جاءني من أحد، لأن الحرف في نية الاطراح، إذ لا فائدة له، بخلاف لولا فإنه حرف جاء لمعنى وليس بزائد. ألا ترى أنك لو حذفتها لبطل ذلك المعنى الذي دخلت من أجله؛ بخلاف الباء ومن. فبان الفرق بينهما. انتهى كلامه. وما نسبه ابن الأنباري للكوفيين نسبه النحاس في شرح أبيات سيبويه للفراء، قال: مذهب سيبويه عند المبرد خطأ، لأن المضمر يعقب المظهر فلا يجوز أن نقول المظهر مرفوعاً والمضمر مجروراً. وأبو العباس المبرد لا يجيز لولاك ولولاه، وإنما يقول لولا أنت. قال أبو العباس: وحدثت أن أبا عمرو اجتهد في طلب مثل لولاك ولولاي بيتاً يصدقه، وكلاماً مأثوراً عن العرب، فلم يجده. قال أبو العباس: وهو مدفوع لم يأت عن ثقة؛ ويزيد بن الحكم ليس بالفصيح. وكذلك عنده قول الآخر: لولاك هذا العام لم أحجج قال: إذا نظرت إلى القصيدة رأيت الخطأ فيها فاشياً. وقول سعيد الأخفش في لولاك: وافق ضمير الخفض في لولاي؛ ليس هذا القول بشيء، ولا يجوز هذا. وقال الفراء: لولاي ولولاك المضمر في موضع رفع، كما تقول لولا أنك ولولا أنت. قال: فإنما دعاهم أن يقولوا هذا لأنهم يجدون المكني يستوي لفظه في الخفض والنصب والرفع، فيقال: ضربنا ومر بنا وقمنا، فلما كان كذلك استجازوا أن تكون الكف في موضع أنت رفعاً إذ كان إعراب المكني بالدلالات لا بالحركات. قال أبو الحسن بن كيسان: الوجه لولا أنت، ولا يجوز أن يكون المضمر خلاف المظهر في الإعراب وهو بدل منه وموضوع موضعه، ولكن المكني مستغن عن دلالته بالحرف الذي يوجب فيه الرفع، ولا يقع منصوب ولا مخفوض؛ واكتفى بدلالة الحرف مندلالة المكني، وكان حرف أخصر من حروف. قال وهذا الذي اخترته هو مذهب الفراء. ثم قال النحاس: وأما أبو إسحاق فجرى على عاداته في الاحتجاج عن سيبويه والتصحيح عنه، فقال إن خبر المبتدأ الذي بعد لولا لا يظهر، فأشبهت لولا حروف الجر لوقعوع اسم بعدها، وكان المضمر لا يتبين فيه إعراب، فجعل موضع المجرور. وهذا احتجاج لطيف لم نر أحداً يحسن مثل هذا. وزاد عليه هذا أنه احتج بقول رؤية، وهو ممن لا تدفع فصاحته: لولاكما قد خرجت نفساهما انتهى ما أورد النحاس مختصراً. قال ابن الأنباري: وأما إنكار أبي العباس المبرد جوازه فلا وجه له لأنه قد جاء كثيراُ في كلامهم وأشعارهم. قال الشاعر: وأنت امرؤٌ لولاي طحت كما هوى ***.............. البيت وقال الآخر: الطويل أتطمع فينا من أراق دماءن *** ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن وقال بعض العرب: لولاك هذا العام لم أحجج وأما مجيء الضمير المنفصل بعده فلا خلاف أنه أكثر وأفصح، وعدم مجيء الضمير المتصل في التنزيل لا يدل على عدم جوازه. وقد أنشد المبرد في الكامل في الموضع الذي نقلنا منه آنفاً بيتاً في وقعة للخوارج، وهو: ويومٌ بجيّ تلافيته *** ولولاك لاصطلم العسكر وقوله: وكم موطن كم هنا لإنشاء التكثير، وهو مبتدأ خبره محذوف تقديره: لك. والموطن، قال صاحب الصحاح: هو المشهد من مشاهد الحرب. وقد استشهد صاحب الكشاف بهذا البيت عند قوله تعالى: {لقد نَصَرَكُمْ اللّهُ في مَوَاطِنَ كَثيرة} على أن المراد بالمواطن مواقف الحروب، كما في البيت. ولولا هنا عند سيبويه حرف الجر لا يتعلق بشيء. وعند غيره الياء مبتدأ، استعير لفظ غير المرفوع للمرفوع، وخبره محذوف تقديره حاضر. وجملة: طحت في موضع النعت لموطن، والرابط محذوف تقديره فيه، وهو قد سد مسد جواب لولا عند من يجعلها على بابها، وتكون معترضة بين النعت والمنعوت. قال ابن الشجري: والجملة التي هي لولاي طحت محلها جر على النعت لموطن، والعائد محذوف. انتهى. وهذا باعتبار مذهب سيبويه. وطاح يطوح ويطيح أيضاً بمعنى هلك وسقط، وكذلك إذا تاه في الأرض. وقوله: كما هوى الخ، مفعول مطلق لطحت من غير لفظه، أي: طحت طيحاً كهوي الساقط؛ فما مصدرية، وقيل: كافة. وهوى بالفتح يهوي بالكسر هوياً بضم فكسر فتشديد، أي: سقط إلى أسفل. والأجرام: جمع جرم بالكسر، وهو الجسد. قال المبرد: في الكامل بعد إنشاده هذا البيت: جرم الإنسان: خلقه. والنيق: أعلى الجبل. وهذا مثل: شابت مفارقه؛ كأنه جعل أعضاءه أجراماً توسعاً. وقد زل قلم ابن الشجري فقال: بأجرامه، أي: بذنوبه، جمع جرم. ويروى: بإجرامه مصدر أجرم، يقال: جرم وأجرم، لغتان، إذا أذنب. وأجرم لغة القرآن. انتهى. ولا يخفى أن جعل الأجرام جمع جرم بالضم، وتفسيره بالذنب، لا وجه له هنا. والنيق بكسر النون: أرفع الجبل. وقلته: ما استدق من رأسه. ومنهوي: ساقط، وهو فاعل هوى. ونقل عن المبرد الطعن في هذه أيضاً، قال: انفعل لا يجيء مطاوع فعل، إلا حيث يكون علاج وتأثير. وقال ابن جني في شرح تصريف المازني: اعلم أن انفعل إنما أصله من الثلاثة، ثم تلحقها الزيادتان، نحو قطعته فانقطع، ولا يكاد يكون فعل منه إلا متعدياً حتى تمكن المطاوعة والانفعال. وقد جاء فعل منه غير متعد، وهو: وكم موطن لولاي طحت البيت. فإنما هذه مطاوع هوى، إذا سقط، وهو غير متعد كما ترى. وقد جاء في هذه القصيدة منغوي قال أبو علي: إنما بنى من هوى وغوى منفعلاً، لضرورة الشعر. انتهى. وهو من قصيدة طويلة ليزيد بن الحكم، يعاتب بها ابن عمه، وقيل أخاه. وقد تقدمت مشروحة في الشاهد الثمانين بعد المائة. وهذا البيت مع شهرته لم يعرفه شارح شواهد التفسيرين خضر الموصلي، حتى إنه قال: هو بيت لم يعزه أحد إلى قائله. وأنشد بعده: الشاهد السادس والتسعون بعد الثلاثمائة الطويل لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ على أنه قد يجيء خبر لعل مضارعاً مقروناً بأن، حملاً لها على عسى. قال الزمخشري في المفصل: قد جاء في الشعر: لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ *** علك من اللاّئي يدعنك أجدعا قياساً على عسى. وقال ابن هشام في المغني: ويقترن خبر لعل بأن كثيراً، حملاً على عسى. كقوله: لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ وبحرف التنفيس قليلاً كقوله: الطويل فقولا لها قولاً رقيقاً لعله *** سترحمني من زفرةٍ وعويل انتهى. فلم يخصه بالشعر. وأما كثرة الاقتران بأن فهو بالنسبة إلى اقترانه بحرف التنفيس، وأما بالنسبة إلى التجرد فهو قليل قطعاً. ويؤيده أن المبرد قال في الكامل، عند إنشاده هذا البيت: إن التجرد من أن هو الجيد، والاقتران بها غير جيد. فلم يقيده بالشعر. وقال بعضهم: الخبر في هذا البيت محذوف، تقديره: لعلك معد لأن تلم ملمة، ونحوه. قال الخطيب التبريزي في شرح المفضليات قوله: لعلّك يوماً أن تلمّ الخ، أظنك أن ألم بك ملمة، ممن الملمات التي تتركك ذليلاً، مجدوع الأنف والأذن. وخبر لعل محذوف مع حرف الجر من أن تلم، ويكون تقدير الكلام ومعنا: لعلك لأرجوك لأن تلم بك ملمة. قال سيبويه: لعل طمع وإشفاق، يريد أنه يكون للأمرين جميعاً. فإذا كان هذا المعنى فكأنه يرجو الشر له، ويطمع فيه. انتهى. وهذا البيت من قصيدة لمتمم بن نويرة الصحابي، رثى بها أخاه مالك بن نويرة لما قتله خالد بن الوليد بتهمة الردة. وقد تقدم الكلام على قصة قتله مع شرح أبيات من هذه القصيدة، في الشاهد السادس والثمانين. وهذه أبيات قبل البيت المذكور: ألم تأت أخبار المحلّ سراتكم *** فيغضب منكم كلّ من كان موجعا بمشمته إذ صادف الحتف مالك *** ومشهده ما قد رأى ثمّ ضيّعا أآثرت هدماً بالياً وسويّةً *** وجئت بها تعدو بريداً مقزّعا فلا تفرحن يوماً بنفسك إنّني *** أرى الموت وقّاعاً على من تشجّعا لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّة ***............. البيت نعيت أمرأً لو كان لحمك عنده *** لآواه مجموعاً له وممزّعا فلا يهنئ الواشين مقتل مالكٍ *** فقد آب شانيه إياباً فودّعا وهذا آخر القصيدة. وقوله: ألم تأت أخبار المحل الخ، هو بضم الميم، وكسر الحاء المهملة، وهو رجل من بني ثعلبة، مر بمالك مقتولاً فنعاه، كأنه شامت به، فذمه متمم. وقال ابن الأنباري في شرحه: المحل بن قدامة مر بمالك، فلم يواره. والسراة: الأشراف. وروي: فيغضب منهم ومنها أي: من الأخبار. وقوله: بمشمته متعلق بموجعاً، وهو مصدر شمت به شماتة ومشمتاً. ويروى: أن صادف الحتف مالك ورفع الحتف أجود من نصبه. ومشهده معطوف على مشمته، والضمائر كلها للمحل. وقوله: أآثرت استفهام توبيخي، والخطاب للمحل. والهدم بالكسر: الثوب الخلق. والبالي: الفاني. والسوية بفتح المهملة وكسر الواو: كساء محشو بثمام ونحوه، يجعل على ظهر الإبل كالحلقة لأجل السنام. قال أبو جعفر: أعطي المحل سلب مالك ففرح به، وأقبل راجعاً. وقزع الرجل، بالقاف والزاي المعجمة، إذا أسرع في سيره. وقزع القوم رسولاً إذا أرسلوا، أراد: إنك تسعى بخبره مسرعاً كمجيء البريد. وقوله: فلا تفرحن يوما الخ، هذا دعاء عليه، أي: لا فرحت بنفسك. وقوله: وقاعاً على من تشجعا، أي: لا يفلت من الموت أحد. يقول: آثرت الثياب وجئت تعدو بشيراً تري الناس أنك قد فزعت لمقتله، وإنما ذاك شماتة منك وسرور به. وقوله: لعلك يوماً الخ، الإلمام: النزول. والملمة: البلية النازلة. والأجداع: المقطوع الأنف والأذن، ويستعمل في الذليل، وهو المراد هنا. يقول: إيها الشامت، لا تكن فحاً بموت أخي، عسى أن تنزل عليك بلية من البليات اللاتي يتركنك ذليلاً خاضعاً. وقوله: نعيت امرأً الخ، النعي: الإخبار بالموت. والممزع: الممزق والمفرق. يقول: لو كنت أنت القتيل لآوى لحمك بدفنه، سواء كان مجموع وممزقاً. وقوله: فلا يهنئ الواشين الخ، هذا دعاء عليهم في صورة النهي. وأنشد بعده: الشاهد السابع والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه: الوافر ولي نفسٌ أقول لها إذا م *** تنازعني لعلّي وعساني على أن سيبويه استدل على كون الضمير، وهو الياء، منصوباً بلحوق نون الوقاية في عساني. قد تقدم نص سيبويه قبل هذا ببيتين. قال النحاس: قال سيبويه في قولهك عساك: الكاف منصوبة. واستدل على ذلك بقولهم: عساني، ولو كانت الكاف مجرورة لقال عساي. قال: ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع. قال: فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال، كما كان للدن مع غدوة حال ليست مع غيرها. قال محمد بن يزيد المبرد: هذا غلط منه، يعني جعله عسى بمنزلة لعل. قال: لأن أفعال الرجاء لا تعمل في المضمر إلا كما تعمل في المظهر. قال: تقديره عندنا أن المفعول مقدم، والفاعل مضمر، كأنه قال عساك الخير والشر. وأراد المبرد أن عسى ككان لأنهما فعلان. وذهب أبو إسحاق إلى صحة قول سيبويه، واحتج له بأن عسى ليس بفعل حقيقي، بل هو شيبة بلعل. ووجدت بخطي عن أبي إسحاق: يجوز أن يكون الضمير في موضع نصب بعسى في عساك والمرفوع محذوف، أي: عسى الأمر إياك. وليس هذا بناقض لما أخذته عنه، لأنه قال: يجوز. فذاك عنده الأصل، وأجاز قول المبرد. انتهى. وزعم الأخفش تبعاً ليونس أن عسى باقية على عملها عمل كان، ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع. قال ابن هشام في المغني: ويرده أمران: أحدهما: أن إنابة ضمير عن ضمير، إنما ثبت في المنفصل، نحو ما أنا كأنت لا أنت كأنا. والثاني: أن الخبر قد ظهر مرفوعاً في قوله: الطويل فقلت عساها نار كأسٍ وعلّه *** تشكّى فآتي نحوها فأعودها انتهى. وهذا البيت لعمران بن حطان الخارجي. وقبله: الوافر ومن يقصد لأهل الحقّ منهم *** فإنّي أتّقيه كما اتّقاني عليّ بذاك أن أحميه حقّ *** وأرعاه بذاك كما رعاني يقال: قصدته وقصدت إليه. وضمير منهم للخوارج. ومن للبيان. جعل الخوارج بزعمه أهل حق. أي: من قصد لأهل الحق من الخوارج بمكروه فإني أدافعه وأحاربه، واتقيه كما يتقيني. وقوله: ولي نفس تنازعني الخ، يقول: إذا نازعتني نفسي فيحملها على ما هو أصلح لها أقول لها: طاوعيني لعل أجد المراد والظفر، وقلت لها لعلي أفعل هذا الذي تدعوني إليه. فإذا قلت لها هذا القول طاوعتني. وعمران بن حطان، هو على ما في الجمهرة: عمران بن حطان بن ظبيان ابن شعل بن معاوية بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل السدوسي، البصري، التابعي المشهور، أحد رؤوس الخوارج من القعدية بفتحتين، وهم الذي يرون الخروج، ويحسنونه لغيرهم، ولا يباشرون بأنفسهم القتال. وقيل: القعدية لا يرون الحرب وإن كانوا يزينونه. وفي الأغاني إنما صار حطان من القعدة لأن عمره طال وكبر وعجز عن الحرب وحضورها، فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه. وكان أولاً مشمراً لطلب العلم والحديث، ثم بلي بذلك المذهب فضل وهلك، لعنه الله،. وقد أدرك صدراً من الصحابة، وروى عنهم، وروى عنه أصحاب الحديث. قال ابن حجر في الإصابة: وقد أخرج له البخاري وأبو داود، واعتذر عنه بأنه إنما خرج عنه ما حدث به قبل أن يبتدع. واعتذر أبو داود عن التخريج بأن الخوارج أصح أهل الأهواء حديثاً عن قتادة. وكان عمران لا يتهم في الحديث. وكان سبب ابتلائه أنه تزوج امرأة منهم فكلموه فيها؛ فقال: سأردها عن مذهبها. فأضلته. وفي الإصابة أنها كانت بنت عمه، بلغه أنها دخلت في رأي الخوارج، فأراد أن يردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها. وذكر المدائني أنها كانت ذات جمال، وكان دميماً قبيحاً، فقالت له مرة: أنا وأنت في الجنة. قال: من أين علمت ذلك. قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وابتليت بمثلك فصبرت. والشاكر والصابر في الجنة. ومن شعره في مدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي قبحهما الله تعالى، قاتل أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، زوج البتول وصهر الرسول رضي الله عنه: البسيط لله درّ المراديّ الذي سفكت *** كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا أمسى عشيّة غشّاه بضربته *** معطىً مناه من الآثام عريانا يا ضربةً من تقيّ ما أراد به *** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا إنّي لأذكره حيناً فأحسبه *** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا قال أبو محمد بن حزم: إنّ ابن ملجم عند الخوارج النصرية أفضل أهل الأرض، لأنه خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره، وعند الشيعة أنه أشقى الخلق في الآخرة. انتهى. وقد أجابه من القدماء بكر بن حماد التاهرتي من أهل القيروان، وأجابه عنها السيد الحميري الشيعي، وهي: البسيط قل لابن ملجم والأقدار غالبةٌ *** هدمت ويلك للإسلام أركانا قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ *** وأوّل النّاس إسلاماً وإيمانا وأعلم النّاس بالإيمان ثمّ بم *** سنّ الرّسول لنا شرعاً وتبيانا صهر الرّسول ومولاه وناصره *** أضحت مناقبه نوراً وبرهانا وكان منه على رغم الحسود له *** مكان هارون من موسى بن عمرانا وكان في الحرب سيفاً ماضياً ذكر *** ليثاً إذا لقى الأقران أقرانا ذكرت قاتله والدّمع منحدرٌ *** فقلت سبحان ربّ العرش سبحانا إنّي لأحسبه ما كان من بشر *** يخشى المعاد ولكن كان شيطانا أشقى مرادٍ إذا عدّت قبائله *** وأخسر النّاس عند اللّه ميزانا كعاقر النّاقة الأولى التي جلبت *** على ثمودٍ بأرض الحجر خسرانا قد كان يخبرهم أن سوف يخضبه *** قبل المنيّة أزماناً وأزمانا فلا عفا اللّه عنه ما تحمّله *** ولا سقى قبر عمران بن حطّانا لقوله في شقيّ ظلّ مجترم *** ونال ما ناله ظلماً وعدوانا يا ضربةً من تقيّ ما أراد به *** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا بل ضربةٌ من غويّ أوردته لظى *** فسوف يلقى بها الرّحمن غضبانا كأنّه لم يرد قصداً بضربته *** إلاّ ليصلى عذاب الخلد نيرانا قال ابن السبكي في طبقات الشافعية: لقد أحسن وأجاد بكر بن حماد في معارضته، فرضي لاله عنه وأرضاه، وأخزى الله عمران بن حطان وقبحه ولعنه، ما أجرأه على الله! قال: وقال القاضي أبو الطيب الطبري: البسيط إنّي لأبرا ممّا أنت ذاكره *** عن ابن ملجم الملعون بهتانا إنّي لأذكره يوماً فألعنه *** ديناً وألعن عمران بن حطّانا عليك ثمّ عليه من جماعتن *** لعائنٌ كثرت سرّاً وإعلانا فأنتما من كلاب النّار جاء به *** نصّ الشّريعة إعلاناً وتبيانا وقد أجاب أيضاً الإمام طاهر بن محمد الأسفرائني في كتاب الملل والنحل المسمى بالتبصير في الدين: البسيط كذبت وأيم الذي حجّ الحجيج له *** وقد ركبت ضلالاً منك بهتانا لتلقينّ بها ناراً مؤجّجة *** يوم القيامة لا زلفى ورضوانا تبّت يداه لقد خابت وقد خسرت *** وصار أبخس من في الحشر ميزانا هذا جوابي في ذا النّذل مرتجل *** أرجو بذاك من الرّحمن غفرانا ونقل الإمام الباقلاني أن السيد الحميري نقضها عليه بقوله: البسيط لا درّ المراديّ الذي سفكت *** كفّاه مهجة خير الخلق إنساناً أصبح ممّا تعاطاه بضربته *** ممّا عليه ذوو الإسلام عريانا أبكى السّماء لبابٍ كان يعمره *** منها وحنّت عليه الأرض تحتانا طوراً أقول ابن ملعونين ملتقطٌ *** من نسل إبليس لا بل كان شيطانا ويلمّه أيّما ذا أمّه ولدت *** لا إن كما قال عمران بن حطّانا عبدٌ تحمّل إثماّ لو تحمّله *** ثهلان طرفة عينٍ هدّ ثهلانا انتهى ما أورده ابن السبكي. ونقل الذهبي في تاريخ الإسلام أن شعر عمران بن حطان المذكور لما بلغ عبد الملك بن مروان، أدركته الحمية، ونذر دمه ووضع عليه العيون، واجتهد الحجاج في أخذه، وقيل: لما اشتهر بمذهبه أراده الحجاج ليقتله، فهرب فلم يزل ينتقل من حي إلى حي إلى أن مات في تواريه، في سنة أربع وثمانين. قال المبرد في الكامل: وكان من حديث عمران حطان، فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن سلام، أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول: الوافر نزلنا في بني سعد بن زيد *** وفي عكّ وعامر وعوبثان وفي لخمٍ وفي أدد بن عمرو *** وفي بكرٍ وحيّ بني الغدان ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقري الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده، فانتمى له من الأزد. وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك، فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه. فذكر ذلك لعبد الملك فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه. فقال: خبرني ببعض أخباره. فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وإني لأحسبه عمران بن حطان. حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله: يا ضربةً من تقيّ ما أراد به *** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا إنّ لأذكره حيناً فأحسبه *** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا فلم يدر عبد الملك لمن هو. فرجع روح فسأل عمران بن حطان عنه، فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب رحمة الله عليه! فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، اذهب فجئني به. فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك. فقال عمران: قد أردت أن أسألك هذا فاستحييت منك فامض فإني بالأثر. فرجع روح إلى عبد الملك فخبره، فقال له عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده. فرجع، فوجد عمران قد احتمل وخلف رقعة فيها: البسيط يا روح كم من أخي مثوى نزلت به *** قد ظنّ ظنّك من لخمٍ وغسّان حتّى إذا خفته فارقت منزله *** من بعد ما قيل عمران بن حطّان قد كنت جارك حولاً ما تروّعني *** فيه روائع من إنسٍ ومن جان حتّى أردت بي العظمى فأدركني *** ما أدرك النّاس من خوف ابن مروان فاعذر أخاك ابن زنباعٍ فإنّ له *** في النّائبات خطوباً ذات ألوان يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ *** وإن لقيت معدّيّاً فعدناني لو كنت مستغفراً يوماً لطاغيةٍ *** كنت المقدّم في سرّي وإعلاني لكن أبت لي آياتٌ مطهّرةٌ *** عند الولاية في طه وعمران ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بين عمرو بن كلاب وانتسب له أوزاعياً. وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع، فسلم عليه فدعاه زفر. فقال: من هذا؟ فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع. فقال له زفر: يا هذا، أزدياً مرة، وأوزاعياً مرة، إن كنت خائفاً آمناك، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى خلف في منزله رقعة وهرب، فيها: البسيط إنّ التي أصبحت يعيا بها زفر *** أعيت عياءً على روح بن زنباع ما زال يسألني حولاً لأخبره *** والنّاس ما بين مخدوعٍ وخدّاع حتّى إذا انقطعت عنّي وسائله *** كفّ السّؤال ولم يولع بإهلاع فاكفف كما كفّ عنّي إنّني رجلٌ *** إمّا صميمٌ وإمّا فقعة القاع واكفف لسانك عن لومي ومسألتي *** ماذا تريد إلى شيخٍ لأوزاع أمّا الصّلاة فإنّي لست تاركه *** كلّ امرئ للذي يعنى به ساعي أكرم بروح بن زنباعٍ وأسرته *** قومٌ دعا أوّليهم للعلا داع جاورتهم سنة فيما أسرّ به *** عرضي صحيحٌ ونومي غير تهجاع فاعمل فإنّك منعيّ بواحدةٍ *** حسب اللبيب بهذا الشّيب من ناعي ثم ارتحل حتى أتى عمان فوجدهم يعظمون أمر مرداس أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل عمان فيه فهرب عمران حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات. وفي نزوله بهم يقول: الطويل نزلنا بحمد اللّه في خير منزلٍ *** نسرّ بما فيه من الأنس والخفر نزلنا بقوم يجمع اللّه شملهم *** وليس لهم أصلٌ سوى المجد يعتصر من الأزد إنّ الزد أكرم معشرٍ *** يمانيةٍ طابوا إذا نسب البشر فأصبحت فيهم آمناً لا كمعشرٍ *** أتوني فقالوا من ربيعة ومضر أم الحيّ قحطان وتلكم سفاهةٌ *** كما قال لي روحٌ وصاحبه زفر وما منهما إلاّ يسرّ بنسبةٍ *** تقرّبني منه وإن كان ذا نفر فنحن بنو الإسلام واللّه واحدٌ *** وأولى عباد اللّه باللّه من شكر وكان عمران رأس القعدية من الصفرية، وفقيههم وخطيبهم وشاعرهم. وقال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس بن أدية، وهي جدته، وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم: الوافر لقد زاد الحياة إليّ بغض *** وحبّاً للخروج أبو بلال أحاذر أن أموت على فراشي *** وأرجو الموت تحت ذرا العوالي فمن يك همّه الدّنيا فإنّي *** لها واللّه ربّ البيت قالي وفيه يقول أيضاً: البسيط يا عين بكّي لمرداسٍ ومصرعه *** يا ربّ مرداس الحقني بمرداس تركتني هائماً أبكي لمرزئتي *** في منزلٍ موحشٍ من بعد إيناس أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه *** ما النّاس بعدك يا مرداس بالنّاس إمّا شربت بكاسٍ دار أوّله *** على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكلّ من لم يذقها شاربٌ عجل *** منها بأنفاس وردٍ بعد أنفاس هذا ما أورده المبرد في الكامل. وقال المرزباني: كان عمران شاعراً مفلقاً مكثراً. وقال الفرزدق: كان عمران من أشعر الناس، لأنه لو أراد أن يقول مثلنا لقال، ولسنا نقدر أن نقول مثله. ويروى أنه امرأته قالت له يوماً: أما زعمت أنك لم تكذب في شعرك قط؟ قال: أوقع ذلك؟ قال: نعم، ألم تقل: مجزوء الكامل فهناك مجرأة بن ثو *** رٍ كان أشجع من أسامه أفيكون رجل أشجع من أسد؟ قال: أما رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة، والأسد لا يقدر على ذلك. وروي عن قتادة أنه قال: لقيني عمران بن حطان فقال: يا عمي؛ احفظ عني هذه الأبيات: الكامل حتّى متى تسقى النّفوس بكأسه *** ريب المنون وأنت لاهٍ ترتع أفقد رضيت بأن تعلّل بالمنى *** وإلى المنيّة كلّ يومٍ تدفع أحلام نومٍ أم كظلّ زائلٍ *** إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع وفي تاريخ الإسلام للذهبي: أن سفيان الثوري كان يتمثل بأبيات عمران بن حطان هذه: الطويل أرى أشقياء لا يسأمونه *** على أنّهم فيها عراةٌ وجوّع أراها وإن كانت تحبّ فإنّه *** سحابة صيفٍ عن قليلٍ تقشّع كركبٍ قضوا حاجاتهم وترحّلو *** طريقهم بادي الغيابة مهيع ومن شعره السائر: الخفيف أيّها المادح العباد ليعطى *** إنّ للّه ما بأيدي العباد فسل اللّه ما طلبت إليهم *** وارج فضل المهيمن العوّاد ومن شعره، وأورده أبو زيد في النوادر، وقال: إنها قصيدة طويلة: الوافر وليس لعيشنا هذا مهاهٌ *** وليست دارنا هاتا بدار وإن قلنا لعلّ بها قرار *** فما فيها لحيّ من قرار لنا إلاّ ليالي هيّناتٍ *** وبلغتنا بأيّام قصار أرانا لا نملّ العيش فيه *** وأولعنا بحرصٍ وانتظار ولا تبقى ولا نبقى عليه *** ولا في الأمر نأخذ بالخيار ولكنّا الغداة بنو سبيلٍ *** على شرف ييسّر لانحدار كركبٍ نازلين على طريقٍ *** حثيثٍ رائحٌ منهم وساري وغادٍ إثرهم طرباً إليهم *** حثيث السّير مؤتنف النّهار والبيت الأول من شواهد سيبويه، أورده على أن هاتا اسم إشارة للمؤنث بمعنى هذه. والمهاه، بهاءين وفتح الميم: الصفاء والرقة. والصفرية، بضم الصاد وسكون الفاء: جنس من الخوارج، نسبوا إلى زياد بن الأصفر رئيسهم. وزعم قوم أن الذي نسبوا إليه هو عبد الله بن الصفار، وأن الصفرية بكسر الصاد. كذا في الصحاح. ويقال للخوارج: الشراة بالضم، الواحد شار، سموا بذلك لقولهم: إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي: بعناها بالجنة، حين فارقنا الأئمة الجائرة. يقال منه: تشرى الرجل. وقد أطنب المبرد في أواخر الكامل في الكلام على الخوارج وفرقهم ووقائعهم. ومن أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه. وأنشد بعده: الشاهد الثامن والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س: الرجز يا أبتا علّك وعساكا على أن الكاف خبر منصوب المحل، واسم عسى ضمير مستتر على أحد قولي المبرد. وقد تقدم نص سيبويه قبل هذا بثلاثة أبيات. وقد أنشد أبو علي في إيضاح الشعر هذا البيت والذي قبله عن سيبويه، ونقل عنه أن الكاف منصوبة، ولو كانت مجرورة لقال عساي. قال أبو علي: وجه ذلك أن عسى لما كانت في المعنى بمنزلة لعل، ولعل وعسى طمع وإشفاق، فتقاربا، أجري عسى مجرى لعل، إذ كانت غير متصرفة كما أن لعل كذلك، فوافقتها في العمل حيث أشبهتها في المعنى والامتناع من التصرف. فإن قلت: إذا صارت بمنزلتها لهذا الشبه فما المرفوع بها، وهي إذا صارت بمنزلة لعل تقتضي مرفوعاً لا محالة، لأنه لا يكون المنصوب في هذا النحو بلا مرفوع. قيل: إن ذلك المرفوع الذي تقتضيه محذوف، ولم يمتنع أن تحذفه، وإن كان الفاعل لا يحذف، لأنها إذا أشبهت لعل جاز أن تحذف خبر هذه الحروف، من حيث كان الكلام في الأصل الابتداء والخبر، فحذفت كما تحذف أخبار المبتدءات. وكذلك المرفوع الذي يقتضيه عسى حذف على هذا الحد، كما حذف الخبر من لعل في قوله: علك وعساكا، وقوله لعلّي وعساني وكما حذف في: المنسرح إنّ محلاً وإنّ مرتحلا وكما حذف الخبر في قوله سبحانه: إنَّ الذينَ كفرُوا ويصُدُّونَ عَنْ سبيلِ اللَّه ، لا كما يحذف الفاعل. ويقوي ذلك أنهم قالوا: عسى الغوير أبؤساً، فجعلوها بمنزلة ما يدخل على الابتداء والخبر. ومما يقوي حذف ذلك لهذه المشابهة وأن حذفه لا يمتنع من حيث امتنع حذف الفاعل، أن ليس لما كانت غير متصرفة صارت عينها بمنزلة ليت في السكون، ولم يكن في يائها الكسر والسكون، ويكون ذلك المحذوف غائباً، كأنه عساك الهالك، وعساك هو. فإن قلت: فإن جاء شيء بعد شيء من هذه الأبيات التي تشبه ما ذكر من عساك تفعل، ولعلي وعساني أخرج، فما يكون الفاعل على قوله؟ قيل: أما على ما ذهب إليه من أنه بمنزلة لعل فلا نظر فيه، ويكون بمنزلة لعلك تخرج، والقول فيه كالقول فيه. وأما على القول الآخر الذي رأيناه غير ممتنع فهو أشكل، لأن الفاعل لا يكون جملة. فإن شئت قلت: إن الفعل في موضع رفع بأنه فاعل، وكأنه أراد عساني أن أخرج، فحذف أن، وصار الفعل مع ان المحذوفة في موضع رفع بأنه فاعل، كما كان في موضع رفع بالابتداء، في قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وكقول أبي دواد: لولا تجاذبه قد هرب وقد جاء ذلك في الفاعل نفسه. أنشد أحمد بن يحيى: الطويل وما راعنا إلاّ يسير بشرطةٍ *** وعهدي به قيناً يفشّ بكير فكما أن هذا على حذف أن، وتقديره: ما راعنا إلا سيره بشرطة، كذلك يكون فاعل عسى في نحو: عسى يفعل، إنما هو على: عسى أن يفعل، كقوله تعالى: {عسى أن تكرَهُوا شيئ} فتحذف أن، وهي في حكم الثبات. ولو قال قائل إن عسى في عساني وعساك، قد تضمن ضميراً مرفوعاً، وذلك الضمير هو الفاعل، والكاف والياء في موضع نصب على حد النصب في قوله: عسى الغوير أبؤساً لا على حد تشبيهه بلعل، ولكن على أصل هذا الباب، كأنه عداه إلى المضمر على حد ما عداه إلى المظهر الذي هو أبؤس، كان وجهاً. فأما فاعلها فإنه لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد جرى له ذكر، ولم يجر له ذكر. فإن كان ذكره قد جرى فلا إشكال في إضماره. وإن لم يجر له ذكر فإنما تضمره لدلالة الحال عليه، كما ذكر من قولهم: إذا كان غداً فأتنا، فكذلك يكون إضمار الفاعل في عسى، وتكون على بابها ولا تكون مشبهة بلعل. والأول الذي ذهب إليه كأنه إلى النفس أسبق. انتهى كلام أبي علي. وقد استشهد لما ذكره الشارح المحقق جماعة، منهم الزمخشري في المفصل، وابن هشام في المغني. وفيه شاهدان آخران: أحدهما ما ذكره سيبويه من أن فيه تنوين الترنم. قال: وأما ناس كثير من بني تميم، فإنهم يبدلون مكان المدة النون فيما ينون، وفيما لا ينون لما لم يريدوا الترنم، أبدلوا مكان المدة نوناً، ولفظوا بتمام البناء، وما هو منه، كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد، سمعناهم يقولون، للعجاج: يا أبتا علّك وعساكن ثانيهما: ما ذكره شارح اللباب وغيره، من أن في يا أبتا الجمع بين عوضين، قال فإن التاء عوض من ياء المتكلم، وإنما جاز الألف دون ياء المتكلم، لأن التاء عوض من ياء التكلم، فيمتنع الجمع بين العوض والمعوض بخلاف الألف، فإن غايته أن يذكر عوضان، وهو غير ممتنع، وليس فيه الجمع بين العوض والمعوض، كما زعم العيني وتبعه السيوطي في شواهد المغني. وقد خطأ أبو محمد الأعرابي الأسود رواية يا أبتا، وقال: إنما الرواية تأنيا. وهو من التأني كما يجيء بيانه. وقد ذكر جميع شراح الشواهد أن ما قبله: الرجز تقول بنتي قد أنى إناكا وأنى: فعل ماض بمعنى قرب. والإنى بكسر الهمزة والقصر: الوقت. قال تعالى: {غَير ناظِرينَ إناه} على أحد قوليه. وأنى إناك: حان حينك، أي: حين ارتحالك إلى سفر تطلب رزقاً، فسافر لعلك تجد رزقاً. وحان رحيلك إلى من تلتمس منه شيئاً تنفقه علينا. وعلك بمعنى لعلك، والخبر محذوف. وزعم العيني وتبعه السيوطي أن أناك بفتح الهمزة والمد. قال: أصله أناءك، والأناء على فعال اسم من الفعل المذكور. وقد نازع أبو محمد الأعرابي في كون هذا ما قبله، وقال: هما من أرجوزتين. ورد رداً شنيعاً على ابن السيرافي، فإنه قال في شرح أبيات سيبويه: قوله يا أبتا علك وعساكن، قبله: تقول بنتي قد أتى إناكا وفي شعره: فاستعزم اللّه ودع عساكا وقوله: قد أتى إناكا، أي: ممن تلتمس منه مالاً تنفقه. وقوله: يا أبتا علك وعساكا، أي: لعلك إن سافرت أصبت ما نحتاج إليه. وقوله: فاستعزم الله الخ، أي: استخره في العزم على الرحيل والنصر، ودع قولك: عساي لا أفوز بشيء، إذا سافرت، ويحصل بيدي التعب. قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب: خلط ابن السيرافي ها هنا من حيث أن النوى أشباه. وصحف في كلمة من البيت أيضاً، وهو قوله: يا أبتا، وإنما هو: تأنّياً علّك وعساكا وسيأتيك بيانه. وذلك أن قوله: فاستعزم اللّه ودع عساكا من أرجوزة، وقوله: تأنّياً علّك وعساكا من أرجوزة أخرى. فالتي فيها فاستعزم الله، هي قوله يمدح بها الحارث بن سليم الهجيمي، يقول فيها: تقول بنتي قد أنى إناك *** فاستعزم اللّه ودع عساكا ويدرك الحاجة مختطاك *** قد كان يطوي الأرض مرتقاكا تخشى وترجى ويرى سناك *** فقلت إنّي عائكٌ معاكا غيثاً ولا أنتجع الأراك *** فابلغ بني أميّة الأملاكا بالشّام والخليفة الملاّك *** وبخراسان فأين ذاكا منّي ولا قدرة لي بذاك *** وسر لكرمان تجد أخاكا إنّ بها الحارث إن لاقاك *** أجدى بسيبٍ لم يكن ركاكا والأرجوزة الأخرى يمدح فيها إبراهيم بن عربي، وهي: لمّا وضعت الكور والوراك *** عن صلبٍ ملاحكٍ لحاكا أسرّ من أمسّيها نسعاك *** أصفر من هجم الهجير صاكا تصفير أيدي العرس المداك *** تأنّياً علّك وعساكا يسأل إبراهيم ما ألهاك *** من سنتين أتتا دراكا تلتحيان الطّلح والأراك *** لم تدعا نعلاً ولا شراكا هذا ما أورده، والله أعلم بالصواب: والأكثرون على أن هذا الرجز لرؤبة بن العجاج، لا للعجاج. وقد تقدم ترجمتهما في أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد التاسع والتسعون بعد الثلاثمائة الكامل هل تبلّغنّي دارها شدنيّةٌ *** لعنت بمحروم الشّراب مصرّم على أن النون الأولى في تبلغني نون التوكيد الخفيفة، والنون الثانية نون الوقاية. وهذا البيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي. وقبله: تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّةٍ *** وأبيت فوق سراة أدهم ملجم وحشيّتي سرجٌ على عبل الشّوى *** نهدٍ مراكله نبيل المحزم هل تبلغنّي دارها شدنيّةٌ ***................ البيت خطّارةٌ غبّ السّرى زيّافةٌ *** تقص الإكام بذات خفٍّ ميثم قوله: تمسي وتصبح الضمير المؤنث لحبيبته، وهي عبلة. والحشية: الفراش المحشو. والسراة، بفتح السين: أعلى كل شيء، وأراد به هنا ظهر فرسه. يقول: تمسي وتصبح فوق فراش وطيء، وأبيت أنا فوق ظهر فرس أدهم ملجم. يعني أنها تتنعم، وأنا أقاسي شدائد الأسفار والحروب. وقوله: وحشيتي سرج مبتدأ وخبر. يريد أن مستوطئ بسرج الفرس كما يستوطئ غيره الحشية والاضطجاع عليها. ثم وصف الفرس بأوصاف محمودة، وهي غلظ القوائم، وانتفاخ الجنبين، وسمنها، والعبل، بالفتح: الغليظ. والشوى بالفتح: القوائم، جمع شواة، أي: على فرس غليظ القوائم والعظام، كثير العصب. والنهد بفتح النون: الضخم المشرف. والمراكل جمع مركل كجعفر، وهو الموضع الذي يصيب رجل الفارس من الجنبين إذا استوى على السرج. والنبيل: العظيم. والمحزم: موضع الحزام. وقوله: هل تبلغني الخ، استبعد الوصول إليها لشدة بعدها، فاستفهم عنه. وأبلغه المنزل، إذا أوصله إليه. ودارها، أي: دار عبلة. وشدنية: ناقة منسوبة إلى شدن بفتحتين، وهو حي باليمن، وقيل: أرض فيه. وقوله: لعنت بالبناء للمفعول، قال التبريزي في شرح المعلقة: دعا عليها بانقطاع لبنها، أي: بأن يحرم ضرعها اللبن، فيكون أقوى لها، وأسمن وأصبر على معاناة شدائد الأسفار، لأن كثرة الحمل والولادة يكسبها ضعفاً وهزالاً. ويجوز أن يكون غير دعاء ويكون خبراً. وأصل اللعن البعد. وقوله: بمحروم الشراب، أي: بضرع ممنوع شرابه. وأصل حرم منع. وقيل: بمحروم الشراب، أي: في محروم الشراب. وقال خالد بن كلثوم: لعنت: نحيت عن الإبل، لما علم أنها معقومة، فجعلت للركوب الذي لا يصلح له إلا مثلها. والمصرم: الذي أصاب أخلافه شيء فقطعه، من صرار وغيره. وقال أبو جعفر: المصرم: الذي يلوى رأس خلفه حتى ينقطع لبنه. وهو هنا مثل لاكي، يريد: أنها معقومة ولا لبن لها. انتهى. وقال الأعلم في: شرح الأشعار الستة: قوله لعنت، أي: سبت بضرعها كما يقال: لعنه الله ما أدهاه وما أشعره. وإنما يريد أن ضرعها قد حرم اللبن فذلك أوفر لقوتها وأصلب لها، فتلعن ويدعى عليها على طريق التعجب من قوتها. والمصرم: المقطوع اللبن. وقيل معنى لعنت أنه دعا عليها بأن ضرعها يكون مقطوع اللبن إذ كان أقوى لها. والمعنى الأول أحسن وأبلغ. انتهى. وقوله: خطارة غب الخ، هو صفة لشدنية. والخطارة: التي تخطر بذنبها يمنةً ويسرة، لنشاطها. والسرى: سير الليل، وغب الشيء: بعده. يقول: هي خطارة بعد السرى، فكيف بها إذا لم تسر، والزيافة: التي تزيف في سيرها، كما تزيف الحمامة، تسرع. وقوله: تقص الإكام، أي: تكسرها بأخفافها، لشدة وطئها وسرعة سيرها. يقال: وقص يقص بالقاف والصاد المهملة. ويروى: تطس بمعناه. يقال: وطس يطس، إذا كسر. والإكام، بالكسر: جمع أكم بفتحتين، كجبال جمع جبل، وهو ما ارتفع من الأرض. والميثم: الشديد الوطء. يقال: وثم الأرض يثمها بالمثلثة، إذا وطئها وطئاً. وقوله: بذات خف، أي: بقوائم ذات أخفاف. وقد تقدم في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب شرح أبيات من هذه القصيدة، مع ترجمة عنترة. وأنشد بعده: الشاهد الموفي الأربعمائة، وهو من شواهد سيبويه: الوافر تراه كالثّغام يعلّ مسك *** يسوء الفاليات إذا فليني على أنه قد جاء حذف نون الوقاية مع نون الضمير للضرورة، كما هنا. والأصل: إذا فلينني، بنونين. قال سيبويه: وإذا كان فعل الجميع مرفوعاً ثم أدخلت فيه النون الخفيفة والثقيلة حذفت نون الرفع، وذلك قولك: لتفعلن ذلك ولتذهبن، لأنه اجتمعت فيه ثلاث نونات، فحذفوها استثقالاً. وتقول: هل تفعلن ذاك، بحذف نون الرفع، لأنك ضاعفت النون، وهم يستثقلون التضعيف، فحذفوها إذ كانت تحذف، وهم في هذا الموضع أشد استثقالاً للنونات، وقد حذفوها فيما هو أشد من ذا بلغنا أن بعض القراء قال: تحاجوني، وكان يقرأ: فبم تبشروني خفيف، وهي قراءة أهل المدينة، وذلك لأنهم استثقلوا التضعيف. قال عمرو بن معد يكرب: تراه كالثّغام يعلّ مسك *** يسوء الفاليات إذا فليني يريد: إذا فلينني. انتهى. قال الأعلم: الشاهد في حذف النون في قوله فليني، كراهةً لاجتماع النونين؛ وحذفت نون الياء دون جماعة النسوة لأنها زائدة لغير معنىً. انتهى. وهذا موافق لما قاله الشارح. وأخذ ابن مالك بظاهر كلام سيبويه في التسهيل أن المحذوف هنا نون النسوة، وقال: هو مذهب سيبويه. ووجهه في شرحه بأنهم حافظوا على بقاء نون الوقاية مطلقاً لما كان للفعل بها صون ووقاية. والبيت من أبيات ثمانية لعمرو بن معد يكرب، قالها في امرأة لأبيه، تزوجها بعده في الجاهلية. وهي: تقول حليلتي لما قلتني *** شرائج بين كدريٍّ وجون تراه كالثّغام يعلّ مسك *** يسوء الفاليات إذا فليني فزينك في شريطك أمّ عمرو *** وسابغةٌ وذو النّونين زيني فلو شمّرن ثمّ عدون رهو *** بكلّ مدجّجٍ لعرفت لوني إذا ما قلت إنّ عليّ دين *** بطعنة فارسٍ قضّيت ديني لقعقعة اللّجام برأس طرفٍ *** أحبّ إليّ من أن تنكحيني أخاف إذا هبطن بنا خبار *** وجدّ الرّكض أن لا تحمليني فلولا إخوتي وبنيّ منه *** ملأت لها بذي شطبٍ يميني الحليلة: الزوجة. وقلتني، من القلى، وهو البغض. وشرائج خبر مبتدأ محذوف، أي: شعرك شرائج. والجملة مقول القول. وشرائج: جمع شريج بفتح الشين المعجمة وآخره جيم: الضرب والنوع. قال ابن دريد في الجمهرة: كل لونين مختلفين هما شريجان. وأنشد هذا البيت. وقوله: بين كدري وجون، أي: بعض الشرائج كدري، أي: أغبر وبعضها جون. والكدري: منسوب إلى الكدرة. وجون بضم الجيم: جمع جونة، وهو مصدر الجون بالفتح؛ وهو من الأضداد، يقال للأبيض جون وللأسود جون. وقوله: تراه كالثغام الخ، الضمير المستتر للحليلة، والضمير البارز المنصوب لشعر الرأس المفهوم مما قبله. ورواه الفراء وابن دريد: رأته بالماضي، وهو من رؤية العين. وكالثغام حال من الهاء، وكذلك قوله يعل. والثغام، بفتح المثلثة والغين المعجمة، قال الأعلم: هو نبت له نور أبيض يشبه به الشيب. وقال صاحب الصحاح: هو نبت يكون في الجبل، يبيض إذا يبس، يقال له بالفارسية: درمنه إسبيذ، يشبه به الشيب، الواحدة ثغامة. وعللته ماءً عللاً، من باب طلب: سقيته السقية الثانية. وعل هو يعل، من باب ضرب، إذا شرب. قال الأعلم: ومعنى يعل يطيب شيئاً بعد شيء. وأصل العلل الشرب بعد الشرب. وهذا غير مناسب، فإنه هنا متعد إلى مفعولين: أحدهما: نائب الفاعل، وهو الضمير المستتر العائد إلى ما عاد إليه الهاء من تراه، والثاني مسكاً. وقوله: يسوء الفاليات فاعله ضمير الشعر، والفاليات مفعوله، وهو استئناف، وهو دليل جواب إذا. والفالية هي التي تفلي الشعر، أي: تخرج القمل منه. وقوله: فزينك في شريطك الخ، هذا خطاب لها. وأم عمرو: منادى. والزين: نقيض الشين، مصدر زانه بمعنى زينه، إذا جعل له زينةً. والشريط، قال جامع ديوانه: هو العيبة الصغيرة. والعيبة بالفتح، ما تجعل فيه الثياب. وقوله: وسابغة، خبر مقدم. وزيني مبتدأ مؤخر. والسابغة: الدرع الواسعة الطويلة. وذو النونين: السيف، والنون شفرته. وقوله: فلو شمرن ثم عدون الخ، يعني النساء الفاليات. وشمر إزاره تشميراً: رفعه. والرهو: السير السهل، مصدر رها يرهو في السير، أي: رفق. والمدجج بجيمين، على صيغة اسم المفعول، هو اللابس آلة الحرب والسلاح. وقوله: إذا ما قلت الخ، هو بضم التاء في الموضعين والطرف، بالكسر: الفرس الجواد. والخبار بفتح الخاء المعجمة بعدها موحدة: الأرض الرخوة. وذو شطب، هو السيف. وشطب السيف: طرائقه التي في متنه، الواحدة شطبة. وترجمة عمرو بن معد يكرب تقدمت في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة. وهو من الصحابة رضي الله عنهم. وأنشد بعده: الشاهد الحادي بعد الأربعمائة، وهو من شواهد س: الوافر كمنية جابرٍ إذ قال ليتي *** أصادفه وأفقد جلّ مالي على أن حذف نون الوقاية من ليتي ضرورة عند سيبويه. قال سيبويه: وقد قالت الشعراء ليتي إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا: الضاربي، والمضمر منصوب. قال زيد الخيل: كمنية جابرٍ إذ قال ليتي *** أصادفه وأتلف بعض مالي انتهى. وهذا من أبيات لزيد الخيل رضي الله عنه، وأولها: تمنّى مزيدٌ زيداً فلاقى *** أخا ثقةٍ إذا اختلف العوالي كمنية جابرٍ إذ قال ليتي ***................. البيت وقد اقتصر عليهما أبو زيد في نوادره. وبعدهما: تلاقينا فما كنّا سواءً *** ولكن خرّ عن حالٍ لحال ولولا قوله يا زيد قدني *** لقد قامت نويرة بالمآلي شككت ثيابه لمّا التقين *** بمطّرد المهزّة كالخلال وقوله: تمنى مزيد الخ، مزيد بفتح الميم وسكون الزاء المعجمة بعدها مثناة تحتية، قال ابن السيرافي وغيره: هو رجل من بني أسد، كان يتمنى أن يلقى زيد الخيل، فلقيه زيد الخيل فطعنه فهرب منه. وقوله: أخا ثقة، أي: صاحب وثوق بشجاعته وصبره في الحرب. والعوالي: جمع عالية، والعالية من الرمح: ما يلي الموضع الذي يركب فيه السنان. يعني وقت اختلاف الرماح ومجيئها وذهابها للطعان. وقوله: كمنية جابر الخ، هو في موضع المفعول المطلق، أي: تمنى مزيد تمنياً كتمني جابر. والمنية بالضم: اسم للتمني، وفي الأصل الشيء الذي يتمنى. وإنما قال: تمنى مزيد زيداً، ولم يقل: تمناني مزيد، للتهويل والتفخيم فإن زيداً قد اشتهر بالشجاعة، فلو أتى بالضمير لفات هذا. وجابر: رجل من غطفان تمنى أن يلقى زيداً حتى صبحه زيد، فقالت له امرأته: كنت تتمنى زيداً فعندك! فالتقيا فاختلفا طعنتين وهما دارعان، فاندق رمح جابر ولم يغن شيئاً، وطعنه زيد برمح له كان على كعب من كعابه ضبة من حديد، فانقلب ظهراً لبطن، وانكسر ظهره، فقالت امرأته وهي ترفعه منكسراً ظهره: كنت تتمنى زيداً فلاقيت أخا ثقة. ومعنى البيتين أن مزيداً تمنى أن يلقى زيداً، كما تمنى جابر، وكلاهما لقي منه ما يكره. وقال أبو جعفر النحاس في قول زيد الخيل: الطويل ألا أبلغ الأقياس قيس بن نوفلٍ *** وقيس بن أهبانٍ وقيس بن جابر قال: قيس بن جابر هو الذي يقول فيه زيد: كمنية جابرٍ إذ قال ليتي فسماه باسم أبيه كما قال الآخر: الرجز يحملن عبّاس بن عبد المطّلب وإنما يريد عبد الله بن عباس. انتهى. وروى أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل: كمنية حائن بالنون، أي: هالك، والمراد به جابر المذكور. وقوله: وأفقد جل مالي فقد يفقد من باب ضرب، بمعنى عدم. وروى بدله: وأتلف من الإتلاف. وجل الشيء معظمه. وهذه رواية الجوهري، وروى غيره: بعض مالي. قال العيني: والأول أحسن. ومن زعم أن بعضاً يرد بمعنى كل، وخرج عليه قوله تعالى: {يُصِبْكُم بعضُ الذي يَعِدُكم} قول الأعشى: البسيط قد يدرك المتمنّي بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزّلل صح عنده حمل رواية الجماعة على ذلك، فيكون أبلغ من رواية الجوهري. إلا أن هذا القول مردود. انتهى. وإذ ظرف عامله منية، وجملة: أصادفه خبر ليت. وأفقد منصوب بإضمار أن؛ فإنها تضمر بعد واو المعية الواقعة بعد التمني. قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: قال صدر الأفاضل: وأفقد بالنصب كما لو كان مكان الواو الفاء، كأنه قال: ليتني أصادف زيداً، وأن أفقد بعض مالي، أي: يجتمع هذا مع فقدان بعض المال. وقال العيني: أفقد بالرفع جملة فعلية، عطف على أصادفه. كذا قيل، وفيه نظر، لأنه يلزم أن يكون فقد بعض ماله متمنى، وليس كذاك، والصحيح أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: وأنا أفقد بعض مالي وتكون الواو للحال. انتهى. أقول: لا مانع على الوجه الأول من جعل الواو للمعية. ثم قال: ويقال أفقد منصوب لأنه جواب التمني. وهذا لا يتمشى إلا إذا قرئ بالفاء فأفقد. انتهى. أقول: كأنه لم يطرق أذنه أن المضارع ينصب بإضمار أن بعد واو المعية كما ينصب بعد فاء السببية في جواب أحد الأشياء الثمانية: البسيط وقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً *** حفظت شيئاً وغابت عنك اشياء ثم قال: ولكن يجوز نصبه بإضمار أن. أقول: كأن هذا الإضمار عنده من القسم السماعي الذي لم يطرد. وفيما قلنا غنية عن هذا. فتأمل. وقوله: تلاقينا فما كنا سواء الخ، خر بالخاء المعجمة: سقط. والحال بالحاء المهملة: موضع اللبد من ظهر الفرس، والحال الثانية: الوقت الحاضر. أي: سقط عن ظهر الفرس بطعن في الحال. وقوله: ولولا قوله، أي: لولا قول جابر. وقدني: اسم فعل بمعنى حسبي. ونويرة، بضم النون: امرأة جابر. قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: والمآلي: جمع مئلاة، وهي الخرقة التي تكون مع النائحة تأخذ بها الدمع، أي: لولا قول جابر حسبي يا زيد من الطعن، قامت امرأته ملتبسةً بالخرق. تنوح عليه وتبكي، أي: قتلته. وقوله: بمطرد المهزة، أراد به الرمح، فإنه إذا هز باليد يطرد. والخلال بكسر الخاء المعجمة: العود الذي يتخلل به، وربما يخل به الثوب أيضاً. أراد أن الرمح كان سنانه دقيقاً مثل الخلال. وزيد الخيل، هو كما قال صاحب الاستيعاب: زيد بن مهلهل بن زيد ابن منهب الطائي، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد طيئ سنة تسع، فأسلم وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقال له: ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصفة غيرك. وأقطع له أرضين في ناحيته. ويكنى أبا مكنف، وكان له ابنان مكنف وحريث، وقيل: حارث. أسلما وصحبا النبي صلى الله عليه وسلم، وشهدا قتال الردة مع خالد بن الوليد. وكان زيد الخيل شاعراً محسنا خطيباً، لسنا شجاعاً، بهمةً كريماً. وكان بينه وبين كعب بن زهير هجاء، لأن كعباً اتهمه بأخذ فرس له. قيل: مات زيد الخيل منصرفه من عند النبي صلى الله عليه وسلم محموماً، فلما وصل إلى بلده مات. وقيل بل مات في آخر خلافة عمر. وكان قبل إسلامه قد أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته. هذا ما أورده صاحب الاستيعاب. وقيل له زيد الخيل لخمسة أفراس كانت له. وكان طويلاً جسيماً موصوفاً بطول الجسم وحسن القامة، وكان يركب الفرس العظيم الطويل، فتخط رجلاه في الأرض، كأنه راكب حماراً. وأنشد بعده: الشاهد الثاني بعد الأربعمائة الرمل أيّها السّائل عنهم وعنّي *** لست من قيسٍ ولا قيس منّي على أن حذف النون ضرورة عند سيبويه، والقياس: عني ومني، بتشديد النون فيهما. قال ابن هشام في شرح شواهده: إذا جرت الياء بمن وعن وجبت النون، حفظاً للسكون؛ لأنه الأصل فيما يبنون. وقد يترك في الضرورة. قال: أيّها السّائل عنهم وعنّي ***................. البيت وفي النفس من هذا البيت شيء، لأنا لم نعرف له قائلاً ولا نظيراً؛ لاجتماع الحذف في الحرفين. ولذلك نسبه ابن الناظم إلى بعض النحويين ولم ينسبه إلى العرب. وفي التحفة: لم يجئ الحذف إلا في بيتٍ لا يعرف قائله. ووقع فيه قيس في موضع الضمير مرتين. وارتفاع الثاني بالابتداء، لأن لا لا تعمل إلا في النكرات. انتهى كلام ابن هشام. وقيس في الموضعين غير منصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، لأنه بمعنى القبيلة. وهو أبو قبيلة من مضر، ويقال له: قيس عيلان، واسمه الناس بن مضر بن نزار، بهمزة وصل ونون، وهو أخو إلياس بمثناة تحتية. قال ابن الكلبي في الجمهرة: إنما عيلان عبد لمضر حضن الناس ورباه فغلب عليه ونسب إليه. وقال صاحب القاموس: وقيس عيلان تركيب إضافي لأن عيلان اسم فرس قيس، لا اسم أبيه كما ظنه بعض الناس. يقال: تقيس فلان إذا تشبه بهم وتمسك منهم بسبب، إما بحلف وجوار وولاء. قال رؤبة: الرجز وقيس عيلان ومن تقيّسا وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب: قيس عيلان بن مضر، ويقال قيس ابن عيلان، واسمه الناس بالنون، وأخوه إلياس بالياء. وكان الناس بالنون متلافاً، وكان إذا نفد ما عنده أتى أخاه إلياس، بالتحية، فيناصفه أحياناً، ويؤيسه أحياناً، فلما طال ذلك عليه، وأتاه كما كان يأتيه قال له إلياس: غلبت عليك العيلة فأنت عيلان، فسمي لذلك عيلان، وجهل الناس. ومن قال قيس بن عيلان فإن عيلان كان عبداً لمضر، حضن ابنه الناس فغلب على نسبته. وقد تقدم هذا الكلام في الشاهد الخامس عشر من أوائل الكتاب. والقبيلة المنسوبة إلى قيس هي خصفة بن قيس، بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة والفاء. وخصفة أيضاً: أبو قبيلة، وهي محارب بن خصفة بن قيس. وأنشد بعده: الشاهد الثالث بعد الأربعمائة، وهو من شواهد س: الرجز قدني من نصر الخبيبين قدي *** ليس الإمام بالشّحيح الملحد على أن هذا ضرورة، والقياس قدني بالنون. قال سيبويه: وسألته رحمه الله، يعني الخليل بن أحمد، عن قولهم قطني ومني وعني ولدني ما بالهم جعلوا علامة المجرور ها هنا كعلامة المنصوب؟ فقال: إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة، إلا كان متحركاً مكسوراً، ولم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا النونات، لأنها لا تذكر أبداً، إلا وقبلها حرف متحرك مكسور، وكانت النون أولى، لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم، فجاؤوا بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار، وكرهوا إن يجيئوا بحرف غير النون فيخرجوا من علامات الإضمار. وإنما حملهم على أن لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن يشبه الأسماء نحو: يد، وهن. وأما ما يحرك آخره فنحو مع ولد، كتحريك أواخر هذه الأسماء، لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر الأسماء، فمن ثم لم يجعلوها بمنزلتها، فمن ذلك معي ولدي في مع ولد، وقد جاء في الشعر قدي. قال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدي لما اضطر شبهه بحسبي وهني، لأن ما بعد حسب، وهن مجرور، كما أن ما بعد قط مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قال: ليتي حيث اضطر. انتهى كلام سيبويه. ورده صاحب الكشاف والبيضاوي عند قوله تعالى: {قَدْ بَلَغْت مِنْ لَدُنِي عُذْر} على قراءة نافع بتحريك نون لدن والاكتفاء بها عن نون الوقاية، كما في: قدني من نصر الخبيبين قدي وعند ابن مالك نون الوقاية في قدني وقطني غير لازمة، بل يجوز ذكرها وحذفها. واستشهد لقط بما روي في الحديث من قوله: قطي قطي بعزتك يروى بسكون الطاء وبكسرها مع الياء وبدونها. وقال في الألفية: الرجز وفي لدنّي لدني قلّ وفي *** قدني وقطني الحذف أيضاً قد يفي قال الشاطبي: قوله قل دليل على أن هذا جائز عنده في الكلام لا مختص بالشعر. وهذا دأبه في النظم، إنما يعبر بلفظ القلة عما جاء في النثر. وهو ثابت بقراءة نافع وأبي بكر. ونبه بذلك على مخالفة ظاهر كلام سيبويه. قال في شرح التسهيل: وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات. وليس كذلك، بل هو جائز في الكلام الفصيح، كقراءة نافع: قد بلغت من لدني عذراً بالتخفيف. ثم قال الشاطبي: وقوله: وفي قدني وقطني الحذف أيضاً قد يفي، يريد أن حذف نون الوقاية فيهما قد يأتي. وإتيانه بقد يفي، إشعار بأنه مسموع في الكلام، بل قد يكثر كثرةً ما، إذ معنى يفي يكثر، أي: إنه يكثر في السماع، فلا يكون معدوداً في الشواذ، ولا في الضرائر. وهذا تنكيت منه على سيبويه، ومن قال بقوله: أن عدم اللحاق يختص بالشع. وقد تبعه ابن هشام في شرح شواهده قال: إذا جرت الياء بلدن وقط وقد، فالغالب إثبات النون حفظاً للسكون، وقد يترك. دليله في لدن قوله تعالى: {قد بلَغْتَ من لدني عُذْر} قرئ مخففاً ومشدداً. وأما قول سيبويه: إن ترك النون مع لدن ضرورة فمردود بالقراءة، ولا يقال إنها جاءت على من يقول لد، وتكون النون للوقاية، لأنه لا وجه حينئذ لدخول النون؛ إذ لا سكون فيحفظ. ودليله في قد قوله: قدني من نصر الخبيبين قدي وفي هذا نظر واضح. وقد أغرب الجوهري في زعمه أن لحاق النون لقدني على خلاف القياس. قال: فأما قولهم قدك، بمعنى حسبك فهو اسم، تقول: قدي وقدني أيضاً بالنون على غير قياس؛ لأن هذه النون إنما تزاد في الأفعال. واضح البطلان. وقال ابن هشام في المغني: قد الاسمية على وجهين: اسم مرادف لحسب، والغالب فيها البناء، يقال: قد زيد درهم، وقدني بالنون، حرصاً على السكون. وتعرب بقلة، يقال: قد زيد درهم بالرفع، كما يقال حسبه درهم بالرفع، وقدي بغير نون، كما يقال حسبي. والوجه الثاني: اسم فعل مرادفة ليكفي، يقال: قد زيداً درهم، وقدني درهم كما يقال: يكفي زيداً درهم، ويكفيني درهم. وقوله: قدني من نصر الخبيبين قدي يحتمل قد الأولى أن تكون مرادفة لحسب على لغة البناء، وأن تكون اسم فعل. وأما الثانية فتحتمل الأول وهو واضح، والثاني على أن النون حذفت ضرورة، ويحتمل أنه اسم فعل لم يذكر مفعوله، فالياء للإطلاق والكسر للساكنين وفيه أمور: أحدها: قال الدماميني: لو كانت مرادفة ليكفي لكانت فعلاً، واللازم باطل، ولا أدري لم جعلها بمعنى المضارع مع أن مجيء اسم الفعل بمعناه فيه كلام وابن الحاجب يأباه. وقد صرح ابن قاسم أنها بمعنى كفى. والصواب ما قاله الشارح في باب اسم الفعل أن معنى قدك اكتف، ومعنى قدني لأكتف. فيكون الأول أمراً للمخاطب، والثاني أمراً للمتكلم نفسه. وهذا كلام في غاية الوضوح. ثانيها: إذا كانت قد في الموضعين بمعنى يكفي، فأين فاعلها؟ ثالثها: يرد على قوله إن الياء للإطلاق والكسرة للساكنين، قول شارحه الدماميني: إن حرف الإطلاق حرف مد يتولد من إشباع حركة الروي، فلا وجود له إلا بعد تحريك الروي، فإذن لم يلتق ساكنان. وقد أعاد ابن هشام هذا الكلام في شرح شواهده فقال: الشاهد في قوله قدني بإلحاق النون. وأما قدي فقال الشارح - يعني ابن الناظم - وغيره: إنه شاهد على ترك النون. وليس كما قالوا، لجواز أن يكون أصله قد، ثم ألحق ياء للقافية، وكسر الدال للساكنين. وإنما شاهد الحذف قوله: الطويل قدي الآن من وجدٍ على هالك قدي والشاهد في قد الأولى. فأما الثانية فمحتملة لما ذكرنا ولا يخفى فساد قوله ثم ألحق ياء للقافية، فإنها دالية لا يائية. وقوله: من نصر الخبيبين، من متعلقة بقدني، لأنه بمعنى لأكتف كما حققه الشارح في باب اسم الفعل. وذهب بعضهم إلى أن قدني مبتدأ بمعنى حسبي، والجار والمجرور خبره، وأن المعنى حسبي من نصرة هذين الرجلين، أي: لا أنصرهما بعد. قال ابن هشام في شرح شواهده: ويجوز أن يكون النصر هنا بمعنى العطية، كقول بعض السؤال: من ينصرني ينصره الله وخرج عليه قوله تعالى: {مَنْ كان يظنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّه} وعلى هذا فالإضافة للفاعل: ويرجح الأول أنه لم يفرد أبا خبيب بالذكر، وإنما يكون العطاء غالباً من ولي الأمر. والخبيبين قيل مثنى خبيب؛ وقيل: جمع خبيب. فعلى الأول الباء الثانية مفتوحة، وعلى الثاني مكسورة. وخبيب، بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة: مصغر خب. وخبيب هو ابن عبد الله بن الزبير. وكان عبد الله يكنى بأبي خبيب. قال بعض فضلاء العجم في شحر شواهد المفصل: وكنيته المشهورة أبو بكر، وكانوا إذا أرادوا ذمه كنوه بأبي خبيب. وفي حاشيته: لعله للإشعار بكونه منقولاً من مصغر الخب بالكسر، وهو الرجل الخداع. وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل: أراد بالخبيبين مثنى عبد الله ومصعباً ابن الزبير. وخالف ما جاء للعرب من نحوه، مثل العمرين، يريدون أبا بكر وعمر، للخفة، والقمرين للشمس والقمر، لتغليب المذكر، لأن عبد الله بن الزبير يكنى أبا خبيب باسم ولده، وأبا بكر، فإذا ذموه قالوا أبو خبيب. قال فضالة بن شريك: الوافر أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ *** نكدن ولا أميّة بالبلاد فعلى ما ذكره الشاعر ينبغي أن يريد به خبيباً واحد إخوته من بني عبد الله بن الزبير، وهم: حمزة، وثابت، وعباد، وقيس، وعامر، وموسى. ولا يخفى أن هذه الإرادة غير مناسبة لما سيجيء. وأورد المبرد هذا البيت عند ذكر الخوارج وقال: يريد خبيباً ومن معه. وقال الإمام أبو الوليد الوقشي في حاشيته على الكامل: هذا خطأ، إنما يريد أبا خبيب، وهو عبد الله بن الزبير. وأنشده المبرد في أوائل الكامل أيضاً وقال: أراد عبد الله ومصعباً ابني الزبير، وإنما أبو خبيب عبد الله. وكتب أبو الوليد في حاشيته هنا أيضاً: أنشده في ذكر الخوارج: الخبيبيين جمعاً، وقال: يريد خبيباً ومن معه، كقراءة من قرأ: سلام على الياسين، قال: فإنما يريد إلياس ومن كان معه على دينه. كذا وقع هنا يريد خبيباً، وإنما هو يريد أبا خبيب على كنيته الأخرى المشهورة، ذهاباً إلى نسبة الخب إليه. ونقل ابن المستوفي عند شرح قوله: بصير بما أعيا النّطاسيّ حذيما والأصل ابن حذيم. عن الخوارزمي: أن هذا ليس من باب الحذف، إنما هو من باب تعدي اللقب من الأب إلى الابن، كما في قوله: الطويل كراجي النّدى والعرف عند المذلّق أي: ابن المذلق، ألا ترى أنه يقال: أفلس من ابن المذلق. ومنه: قدني من نصر الخبيبين قدي ونقل ابن هشام في شرح الشواهد عن ابن السيد فيما كتبه على الكامل رد رواية التثنية، بأن الشاعر قال هذا الشعر عند حصار طارق، ومصعب مات قبل ذلك بسنين، ولم أر لابن السيد شيئاً من شرحه على هذا البيت في الموضعين من الكامل. وذكر العيني للتثنية وجهين: أحدهما أن المراد عبد الله وأخوه مصعب. وثانيهما: أن المراد عبد الله وابنه خبيب المذكور. وعلى هذا الثاني لا يرد الرد المذكور عن ابن السيد. ورواه جماعة بفظ الجمع، ومنهم أبو زيد في نوادره قال: أراد الخبيبيين، فحذف ياء النسبة، وأورد له نظائر. ومنهم يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق، قال ابن السيرافي في شرح شواهده: الخبيبين جمع، يريد به عبد الله بن الزبير وأصحابه، وجعلهم كأن كل رجل منهم خبيب. ومثل هذا يفعل كثيراً، يقولون الأشعرون إذا نسبوا إلى الأشعر، كأنهم جمعوا رجالاً كل اسم رجل منهم أشعر، وإنما أشعر الذي أضيفوا إليه، فصار الخبيبين في موضع الخبيبيين، والأشعرون في موضع الأشعريين، فحذفوا ياء النسبة وجعلوا الاسم كأنه لكل واحد من المنسوبين. ومنهم أبو عبيدة، نقله عنه أبو الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد. ومنهم أبو جعفر النحاس في تفسير القرآن قال: إنما يريد أبا خبيب عبد الله ابن الزبير، فجمعه على أنه من كان معه على مذهبه داخل فيه. ومنهم ابن جني في المحتسب، في سورة الصافات عند قراءة ابن محيصن: وإن الياس بغير همز، سلام على الياسين بغير همز. قال: فأما الياس موصول الألف فإن الاسم منه ياس بمنزلة باب ودار، ثم لحقه لام التعريف. والياسين على هذا كأنه على إرادة ياء النسب، كأن الياسيين، كما حكى عنهم صاحب الكتاب: الأشعرون والنميرون، يريد الأشعريين والنمريين. وروينا عن قطرب عنهم: هؤلاء زيدون منسوبون إلى زيد بغير ياء النسبة. وقال أبو عمرو: هلك اليزيدون يريد: ثلاثة يزيديين. وقد يجوز أن يكون جعل كل واحد منهم من أهل الياس ياساً، فقال الياسين، كقوله: قدني من نصر الخبيبين قدي يريد أبا خبيب وأصحابه، كأنه جعل كل واحد منهم خبيباً. يفهم صنيعه أنه إذا جعل كل واحد منهم خبيباً لا يكون على تقدير ياء النسبة، وإذا كان على تقديرها يراد أصحاب أبي خبيب فقط، ولا يدخل أبو خبيب فيهم. كما قال أبو محمد التوزي: من أنشده بالجمع يريد أصحاب ابن الزبير، كما يقال المهالبة. وحقه الخبيبيين بالتشديد؛ ولكنه حذف ياء النسبة، نقله عنه صاحب كتاب التفسح في اللغة. وإليه ذهب ابن هشام في شرح شواهده قال: يروى الخبيبين مثنى على إرادة عبد الله وأخيه مصعب، ويروى على الجمع على إرادة عبد الله ومن على رأيه، وكلاهما تغليب. ويحتمل على الجمع أن يريد مجرد أصحاب عبد الله على أن الأصل الخبيبيين، ثم حذفت الياء كقولهم: الأشعرين. وهذا خلاف ما تقدم عن ابن السيرافي، وخلاف قول أبي علي في الإيضاح الشعري قال: من أنشده على الجمع أراد الخبيبيين ونسب إلى أبي خبيب، يريده، ويريد شيعته. وعلى هذا قراءة من قرأ: سلام على الياسين أراد النسب إلى الياس. ومن أنشد على التثنية أراد عبد الله ومصعباً فثناهما كما قالوا: العجاجان. ويؤيد كلام ابن جني ومن تبعه، صنيع المبرد في الكامل قال عند ذكر الخوارج: باب للنسب وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب إذا كانوا إليه ينسبون. ونظيره المهالبة والمسامعة والمناذرة، ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون، جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر. فهذا يتصل في القبائل. وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أودين، فيكون له مثل نسب الولادة، كما قلت: أزرقي لمن كان على رأي ابن الأزرق، كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس. ومن قرأ: سلام على الياسين فإنما يريد الياس عليه السلام ومن كان على دينه، كما قال: قدني من نصر الخبيبيين قدي يريد أبا خبيب ومن معه. وقوله: قدي تأكيد للأول. وليس الإمام الخ، أراد بالإمام الخليفة، وعرض بعبد الله بن الزبير، فإنه كان بخيلاً. والشح: البخل. وشح يشح من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب وتعب، فهو شحيح من قوم أشحاء. والملحد قال صاحب المصباح: من ألحد في الحرم بالألف، إذا استحل حرمته وانتهكها. وألحد إلحاداً: جادل ومارى. ولحد بلا ألف، بمعنى جار وظلم. والبيتان من أرجوزة لحميد الأرقط. قال ابن المستوفي: ويروى: ليس أميري بالظلوم الملحد ولم أر البيت الأول في ديوانه. وأولها: الرجز ليس الإمام بالشّحيح الملحد *** ولا بوبرٍ بالحجاز مقرد إن ير بالأرض الفضاء يصطد *** وينجحر فالجحر شرّ محكد وهي أربعة أبيات. وكذلك أورد الأبيات القالي في أماليه ولم يورد بيت قدني. وأورد أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي أبياتاً ثلاثة قبلها، قال: يمدح الحجاج، وهي: الرجز قلت لعنسي وهي عجلى تعتدي *** لا نوم حتّى تحسري وتلهدي وتردي حوض أبي محمّد *** ليس الأمير بالشّحيح الملحد إلى آخر الأبيات، وقال: هذا تعريض بابن الزبير في قوله: بالشحيح الملحد، يريد أنه ألحد في الحرم. وفي قوله: ولا بوبر بالحجاز مقرد. والوبر، بفتح الواو وسكون الموحدة وآخره راء مهملة: دويبة مثل السنور طحلاء اللون حسنة العينين لا ذنب لها، توجد في البيوت. والمقرد: اللاصق من جزع وذل. وقوله: حتى تحسري وتلهدي يقال: لهد البعير يلهد، إذا عض الحمل غاربه وسنامه حتى يؤلمه. انتهى. وقوله: قلت لعنسي الخ، العنس بفتح العين وسكون النون: الناقة الصلبة، وعجلى: مؤنث عجلان. وتعتدي، من العدو. وتحسري: مضارع حسر بالفتح يحسر بالكسر حسوراً؛ إذا أعيا. وتلهدي، يقال: لهد البعير يلهد، إذا عض الحمل غاربه وسنامه حتى يؤلمه. ولهده الحمل، أي: أثقله. قال الأصمعي: لهد القوم دوابهم: أجهدوها وأتعبوها. وقوله: وتردي الخ، وبمعنى إلى وإلا. وتردي، من الورد، منصوب بحذف النون بأن مضمرة بعد أو. وأبو محمد: كنية الحجاج ابن يوسف الثقفي. وقوله ولا بوبر الخ، قال ابن الأثير في النهاية: الوبر بسكون الباء: دويبة على قدر السنور غبراء وبيضاء، حسنة العينين، شديدة الحياء حجازية، والأنثى وبرة. ويشبه بها تحقيراً. وضبطه العيني وتبعه السيوطي في شرح شواهد المغني بفتح الواو وسكون التاء المثناة من فوق وفي آخره نون، بمعنى واتن. يعني: ولا بدائم ثابت بأرض الحجاز. ويقال للماء المعين الدائم الذي لا يذهب: واتن، وكذلك بمعناه واثن بالمثلثة. هذا كلامه. وهذا تحريف منه قطعاً، ومقرد: اسم فاعل من أقرد بالقاف، بمعنى ذل وخضع وقال الجوهري: أقرد، أي: سكن وتماوت. وروى: مفرد بالفاء على أنه اسم مفعول من أفردته، إذا عزلته. وقوله: إن ير يوماً الخ، الجملة الشرطية صفة لوبر، ونائب الفاعل في ير ضمير الوبر. والفضاء بالفاء. ويصطد بالبناء للمفعول. وقوله: وينجحر الخ، قال صاحب الصحاح: الجحر بضم الجيم: واحد الجحرة والأجحار. وأجحرته، أي: ألجأته، إلى أن دخل جحره فانجحر. وفاعل ينجحر ضمير الوبر أيضاً. والمحكد، بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الكاف: الأصل، ويقال له المحتد أيضاً بكسر المثناة الفوقية. وحميد الأرقط: شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وهو معاصر الحجاج. وهو حميد بن مالك بن ربعي بن مخاشن بن قيس بن نضلة بن أحيم ابن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وقيل: هو أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وهم ربيعة الجوع. وسمي الأرقط لآثار كانت بوجهه. والرقط النقط. والرقطة: سواد يشوبه نقط. والأرقط من الغنم: مثل الأبغث. والأرقط: النمر. ولم أر ترجمة حميد هذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة، ولا في المؤتلف والمختلف للآمدي ولا في الأغاني، فيما يحضرني منه. وإنما نقلت ترجمته من الأنساب. وقيل قائل الشعر المذكور أبو بجلة، قاله ابن يعيش في شرح المفصل ولا أعرف هذا. والله أعلم. وأنشد بعده: إذ ذهب القوم الكرام ليسي وأوله: عددت قومي كعديد الطّيس وتقدم الكلام عليه قريباً. وأنشد بعده: وليس حاملني إلا ابن حمّال أوله: ألا فتىً من بني ذبيان يحملني وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والتسعين بعد المائتين من باب الإضافة. وأنشد بعده: الشاهد الرابع بعد الأربعمائة: الوافر وكائن بالأباطح من صديقٍ *** يراني لو أصبت هو المصابا على أن ربما وقع ضمير الفصل بلفظ الغيبة بعد حاضر، لقيامه مقام مضاف غائب، أي: يرى مصابي هو المصاب. بيانه: أن هو فصل وقع بعد ضمير الحاضر، أي: المتكلم، فكان حقه في الظاهر أن يقول: يراني أنا المصاب، لأن ضمير الفصل يجب أن يكون وفق ما قبله في الغيبة والخطاب التكلم، لأن فيه نوعاً من التوكيد، تقول: علمت زيداً هو المنطلق، وعلمتك أنت المنطلق، وعلمتني أنا المنطلق. وحينئذ يتوجه عليه سؤالان: أحدهما: كيف وقع ضمير الغيبة بعد ضمير المتكلم، وحق الفصل أن يكون وفقاً لما قبله؟ وثانيهما: أن المفعول الثاني في باب علم يجب أن يكون موافقاً للمفعول الأول في الماصدق، فكيف يصح حمل المصاب الذي هو بمعنى المصيبة على الياء في يراني؟ وأجاب الشارح المحقق عنهما بما ذكره، وهو أن الضمير الحاضر، وهو الياء، قائم مقام المضاف الغائب، أي: يرى مصابي هو المصاب. والمعنى يرى مصابي هو المصاب العظيم، ويسقط بهذا الجواب السؤالان. ووجه قيام الياء مقام المضاف أن مفعول يرى في الحقيقة هو المضاف المحذوف، والياء مضاف إليه، فلما حذف المضاف قام الياء المجرور محلاً مقام ذلك المضاف المنصوب على المفعولية، فالفصل مطابق للمحذوف لا للقائم مقامه. وإنما وصف المضاف بالغائب لأنه اسم ظاه، وهو في حكم الغائب، ولهذا يعود ضمير الغيبة إليه. والمصاب على هذا مصدر ميمي، كقولهم: جبر الله مصابك، أي: مصيبتك. وإنما وصف المصاب بالعظيم لتحصل الفائدة، ومثله في حذف الصفة: الآن جئت بالحق، أي: بالواضح، وإلا لكفروا بمفهوم الظرف، إذ يكون المعنى: وقبل الآن لم يجئ بالحق، فيكون إنكاراً لما جاء به أولاً. ويجوز أن لا تقدر الصفة، ويكتفي بالفائدة الحاصلة من الحصر، والمعنى لو أصبت، يرى مصيبتي هي المصيبة ولا يعد غيرها مصيبة، وذلك من تأكد صداقته، لا يكترث بمصيبة غيري، ولا يهتم لها. ولصحة المعنى هنا لم يقدر الشارح المحقق الصفة. فلله دره ما أدق نظره! وهذا الذي ذكره في هذا البيت أحد تخريجين لأبي علي الفارسي، ذكرهما في إيضاح الشعر قال: يجوز أن يكون التقدير في يراني يرى مصابي، أي: مصيبتي، وما نزل بي المصاب، كقولك: أنت أنت ومصيبتي المصيبة. أي: ما عداه جلل هين، فيكون هو فصلاً بين المضاف المقدر وبين الظاهر. واقتصر على هذا التخريج ابن الشجري في أماليه ثم قال: ولو أنه قال: يراه لو أصبت هو المصابا، فأعاد الهاء من يراه إلى الصديق، والمعنى يرى نفسه، كما جاء في التنزيل: إنَّ الإنسان ليَطْغَى أنْ رآهُ استَغْنى - لسقط الاعتراض، واستغنى عن تقدير المضاف، ولكان المصاب اسم مفعول من قولك: أصيب زيد، فهو مصاب. ولكن المروي: يراني. انتهى. أقول: لم يرو الأخفش في كتاب المعاياة إلا: يراه لو أصبت هو المصابا بالمثناة التحتية وضمير الغائب. وقال ابن هشام في المغني: ويروى: يراه، أي: يرى نفسه، وتراه بالخطا، ولا إشكال حينئذ ولا تقدير. والمصاب حينئذ اسم مفعول لا مصدر. ولم يطلع على هاتين الروايتين بعضهم فقال: ولو أنه قال يراه لكان حسناً، أي: يرى الصديق نفسه مصاباً إذا أصبت. والتخريج الآخر الذي ذكره أبو علي: أن يكون تأكيداً لمستتر في يراني لا فصلاً. قال: موضع هو رفع لكونه تأكيداً للضمير الذي في يراني، لأن هو للغائب، والمفعول الأول في يراني للمتكلم، والفصل إنما يكون الأول في المعنى، كقوله سبحانه: أنا أقلُّ مِنْكَ مالاً وولَداً . ألا ترى أن أنا هو المفعول الأول المعبر عنه بني. والمعنى: يراني هو المصابا، أي: يراني للصداقة المصاب، لغلظ مصيبتي عليه للصداقة، وليس كالعدو والأجنبي الذي لا يهمه ذاك. فالمصاب على هذا اسم مفعلو لا مصدر. وبقي تخريج ثالث نقله ابن هشام عن بعضهم في المغني، وهو أن يجعل هو فصلاً للياء. ووجهه بأنه لما كان عند صديقه بمنزلة نفسه، حتى كان إذا أصيب كأن صديقه قد أصيب؛ فجعل ضمير الصديق بمنزلة ضميره، لأنه نفسه في المعنى. وزعم ابن الحاجب في أماليه أن الرواية: لو أصيب هو المصابا وقال: شرط الفصل أن يأتي على طبق الخبر، فكان ينبغي أن يكون أنا، لأن المصاب مفعول ثان ليراني، والمفعول الأول الياء وهي للمتكلم، والمفعول الثاني هو الأول في المعنى، فكان يجب أن يكون الفاصل على القياس أنا. ووجهه أنه ليس على الفصل، بل هو تأكيد للضمير المستتر في يراني، وللضمير في أصيب. وأما إن قدر لو أصبت لم يستقم المعنى، إذ تقديره يراني مصاباً إذا أصابتني مصيبة. ولا يخبر بمثل ذلك عاقل، إذ لا يتوهم خلافه. فالمصاب المذكور عنده اسم مفعول، لا مصدر. وقد خفي هذا على ابن هشام فقال في المغني بعد نقل كلامه. وعلى ما قدمناه من تقدير الصفة لا يتجه الاعتراض. قال الدماميني في الحاشية الهندية: الصفة التي أشار إليها إنما قدرها على جعل المصاب مصدراً لا اسم مفعول، وكلام ابن الحاجب فيما إذا كان المصاب اسم مفعول لا مصدراً، ولذلك جعله مفعولاً ثانياً ليرى، والمفعول الأول هو الياء، ولولا ذلك لما صح بحسب الظاهر. والاعتراض الذي أشار إليه ابن الحاجب غير متجه مع الإعراض عن تقدير الصفة، وذلك لأن مبناه على أن يكون مصاباً اسم مفعول نكرة، والواقع في البيت ليس نكرةً، بل هو معرف بأل، والحصر مستفاد من التركيب، كقولك: زيد هو الفاضل لا غيره. وكذا المعنى في البيت، أي: لو أصبت رآني المصاب، بمعنى أنه لا يرى المصاب إلا إياي دون غيري، كأنه لعظم مكانه عنده وشدة صداقته له، تتلاشى عنده مصائب غير صديقه، فلا يرى غيره مصابا، ولا يرى المصاب إلا إياه؛ مبالغة. فالمعنى صحيح متجه كما رأيت، بدون تقدير صفة. وقوله: لو أصبت جملة معترضة بين مفعولي يرى، وجواب لو محذوف يدل عليه ما قبله، ويراني بمعنى يعلمني، وفاعله ضمير صديق، والجملة خبر كائن. وبالأباطح كان في الأصل صفة لصديق، فلما قدم عليه صار حالاً منه. ومن صديق تمييز لكائن، وتمييزها مجرور بمن في الغالب. وكائن هنا خبرية لإفادة التكثير ككم الخبرية. ورواه الأخفش في المعاياة: وكم لي في الأباطح من صديق وأورده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى: {وكائن من نبيٍّ قُتِلَ مَعَهُ ربِّيُّون كثير}. قال: وكائن على وزن فاعل، وأكثر ما جاء الشعر على هذه اللغة. ثم أنشد هذا البيت مع أبيات أخر. والأباطح: جمع أبطح، وهو مسيل واسع للماء فيه دقاق الحصى. وهذا البيت من قصيدة لجرير بن الخطفى، مدح بها الحجاج بن يوسف الثقفي. وبعده: ومسرورٍ بأوبتنا إليه *** وآخر لا يحبّ لنا إيابا ومنها: إذا سعر الخليفة نار حربٍ *** رأى الحجّاج أثقبها شهابا ومطلع القصيدة: سئمت من المواصلة العتاب *** وأمسى الشّيب قد ورث الشّبابا ومعنى وراثة الشيب الشباب حلوله محله، فإن الوارث يحل محل الموروث. وترجمة جرير قد تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد الخامس بعد الأربعمائة: الطويل هو البيت حتّى ما تأنّى الحزائق تمامه: ويا قلب حتّى أنت ممّن أفارق على أنه قد يخبر عن ضمير الأمر المستبهم تقديراً بالمفرد، كما أخبر بالبين. هنا عن هو، كأنه قيل: أي شيء وقع من المصائب؟ فقال: هو البيت. وقوله: حتى ما تأنى مبني على ما يفهم من استعظام أمر البين المستفاد من الضمير، أي: ارتقي أمر البين في الصعوبة، حتى لا تتأنى جماعات الإبل أيضاً. وفي هذا رد على الواحدي في زعمه أن هذا الضمير من قبيل ما فسر بجملة. وهذه عبارته: هو كناية عن البين، يسمون ما كان من مثل هذا الإضمار على شريطة التفسير، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللّضهُ أحَد}. وقوله تعالى: {فإنَّها لا تَعْمَى الأبصار}، وقول الشاعر: هي النَّفس ما حملتها تتحمَّلُ ومثله كثير. وقال المبارك بن المستوفي في النظام: قال أبو القاسم عبد الواحد بن علي: يقول: الحق والشأن هو الفراق، لا الاجتماع، كأنه نظر فيه إلى قوله تعالى: {الذي خلقَ الموتَ والحياة} فقدم الموت لأن الانتهاء إليه، والأمور بخواتمها. وهذا تفسير بعيد من معنى البيت، وتقدير ضمير الشأن بما قدره به يغاير ما قدره النحويون. وتأنى أصله تتأنى بتاءين، مضارع من التأني، وهو التلبث، والخزائق: جمع حزيق بالحاء المهملة والزاي المعجمة. قال صاحب القاموس: الحزيق والحزيقة والحزاقة: الجماعة، والجمع الحزائق. والظاهر أنه بمعنى الجماعة مطلقاً لا بمعنى جماعة الإبل، كما صرح به الشارح. ويدل لما قلنا كلام شراحه. قال ابن جني: تأنى تمكث. والحزائق: جمع حزيق، وهو الجماعة. وقال أبو اليمن الكندي: أي هذا الذي تشتكيه هو البين، حتى لا مكث للجماعات في التفرق، بل لها إسراع وعجلة. ثم التفت إلى خطاب قلبه، أي: أنت أيضاً مع علقتك في الموجبة لقربك أنت مفارق. وحتى في الموضعين ابتدائية. وأشار إليه ابن جني بقوله: معناه يفارقني كل واحد حتى أنت مفارقي، كما قال الفرزدق: الطويل فيا عبجاً حتّى كليبٌ تسبّني أي: يسبني كل أحد حتى كليب تسبني. قال ابن هشام في المغني: حتى الابتدائية حرف يبتدأ بعده الجمل، أي: يستأنف. فيدخل على الجملة الاسمية والفعلية، قال الفرزدق: فيا عجباً حتّى كليب تسبّني ولا بد من تقدير محذوف قبل حتى من هذا البيت يكون ما بعد حتى غايةً له، أي: فواعجبا يسبني الناس حتى كليب تسبني. قال الواحدي: ومعنى البيت: هو البين الذي فرق كل شيء، حتى لا يتمهل، ولا يتأنى الجماعات أن يتفرقوا إذا جرى حكم البين فيهم. ثم خاطب قلبه: وأنت أيضاً على مالك من علائق القرب ممن أفارقه، يعني: الأحبة، إذا فارقوني ذهب القلب معهم، ففارقني وفارقته. وهذا البيت مطلع قصيدة لأبي الطيب المتنبي، مدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي. وترجمة المتنبي تقدمت في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة. وأنشد بعده: الشاهد السادس بعد الأربعمائة، وهو من شواهد المفصل: الطويل على أنّها تعفوا الكلوم وإنّم *** نوكّل بالأدنى وإن جلذ ما يمضي على أن الضمير في أنها ضمير القصة. في التسهيل وشرحه لابن عقيل: وإفراده لازم، لأن مفسره مضمون الجملة. وهو مفرد. وكذا تذكيره. والمنقول عن البصريين جواز التأنيث لإرادة القصة، وعن الكوفيين المنع ما لم يله مؤنث، نحو: إنها جاريتاك ذاهبتان، وإنها نساؤك ذاهبات، ومذكر شبه به مؤنث، نحو: إنها قمر جاريتك، وفعل بعلامة تأنيث، كقوله تعالى: {فإنَّها لا تَعمَى الأبصار}. فيرجح تأنيثه باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشأن. فيجوز في هذه المسائل الثلالث: التذكير والتأنيث، لكن الراجح التأنيث؛ لأن فيه مشاكلةً تحسن اللفظ ولا يختلف المعنى بذلك، إذ القصة والشأن بمعنىً واحد. وتعفو هنا فعل لازم بمعنى تدرس وتبرأ. والكلوم فاعله جمع كلم، وهو الجرح والحزة، والجملة خبر ضمير الشأن. ولم يحتج إلى رابط لأنها نفس المبتدأ في المعنى. والبيت من أبيات لأبي خراش الهذلي، أوردها السكري في أشعار الهذليين؛ وكذلك المبرد في الكامل وأبو تمام في أول باب المراثي من الحماسة. وكذلك الأصبهاني أوردها في الأغاني، والقالي في أماليه، وهي: الطويل حمدت إلهي بعد عروة إذ نج *** خراشٌ وبعض الشّرّ أهون من بعض فواللّه ما أنسى قتيلاً رزئته *** بجانب قوسى ما مشيت على الأرض على أنّها تعفو الكلوم وإنّم *** نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي ولم أدر من ألقى عليه رداءه *** على أنّه قد سلّ عن ماجدٍ محض ولم يك مثلوج الفؤاد مهبّج *** أضاع الشّباب في الرّبيلة والخفض ولكنّه قد نازعته مجاوعٌ *** على أنّه ذو مرّة صادق النّهض عروة: أخو أبي خراش، وخراش: ابنه. وأخطأ بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل، وتبعه شارح أبيات الموشح، في زعمه أن عروة ابن الشاعر. وخراش بالراء لا بالدال. وأبو خراش اسمه خويلد بن مرة، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والسبعين. وكان لأبي خراش تسعة إخوة، منهم عروة بن مرة، وزهير بن مرة. قال المبرد في الكامل: جاور عروة بن مرة أخو أبي خراش الهذلي ثمالة من الأزد، فجلس يوماً بفناء بيته آمناً لا يخاف شيئاً، فاستدبره رجل منهم بسهم من بني بلال، فقصم صلبه، ففي ذلك يقول أبو خراش: لعن الإله وجوه قومٍ رضّعٍ *** غدروا بعروة من بني بلاّل وأسرت ثمالة خراش بن أبي خراش، فكان فيهم مقيماً، فدعا آسره رجلاً منهم للمنادمة، فرأى ابن أبي خراش موثقاً في القد فأمهل حتى قام الآسر لحاجة، فقال المدعة لابن أبي خراش: من أنت؟ قال: أنا ابن أبي خراش. فقال: كيف دليلاك؟ قال: قطاة. قال: فقم فاجلس ورائي. وألقى عليه رداءه، ورجع صاحبه فلما رأى ذلك أصلت له السيف، فقال: أسيري! فنثر المجير كنانته وقال: والله لأرمينك إن رمته؛ فإني قد أجرته! فخلى عنه فجاء إلى أبيه فقال له: من أجارك؟ فقال: والله ما أعرفه. فقال أبو خراش: حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا الأبيات. وتزعم الرواة أنها لا تعرف رجلاً مدح من لا يعرف غير أبي خراش. وقوله: وجوه قوم رضع هو جماعة راضع، وقوم يقولون: هو توكيد للئيم كما يقولون جائع نائع. وقوم يقولون: الراضع: الذي يرتضع من الضرع لئلا يسمع الضيف والجار الحلب منه. وقوله: كيف دليلاك، فهو كثرة الدلالة. والفعيلي إنما يستعمل في الكثرة. وقال صاحب الأغاني: خرج زهير بن مرة، أخو أبي خراش، معتمرا حتى ورد ذات الأقير من نعمان، فبينا هو يسقي إبلاً له، إذ ورد عليه قوم من ثمالة، فقتلوه، فغزاهم أبو خراش وقتل منهم أهل دارين، أي: حلتين من ثمالة، ثم إن عروة وخراشاً خرجا مغيرين على بطنيني من ثمالة، يقال لهما: بنو رزام وبنو بلال - بتشديد اللام الأولى - فظفر بهما الثماليون، فأما بنو رزام فنهوا عن قتلهما، وأبت بنو بلال عن قتلهما، حتى كاد يكون بينهم شر، فألقى رجل منهم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ثم قل: انج. وانحرف القوم بعد قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا سلموه إليه فقالوا: أين خراش؟ فقال: أفلت مني فذهب. فسعى القوم في أثره فأعجزهم، فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة، ويذكر خلاص ابنه خراش: حمدت إلهي بعد عروة إذ نج ***............ الأبيات وذكر التبريزي في شرح الحماسة بعد نقل هذين القولين عن المبرد أيضاً، أن ملقي الرداء كان مجتازاً بعروة، فرآه بادي العورة مصروعاً، ففعل به ذلك. قال التبريزي: قد روي فيما حكي عن الأصمعي وأبي عبيدة أنهما قالا: لا نعرف من مدح من لا يعرفه غير أبي خراش. وقد سلك من شعراء الإسلام مسلكه أبو نواس، في أبيات أولها: الطويل ودار ندامى عطّلوها وأدلجو *** بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارس مساحب من جرّ الزّقاق على الثّرى *** وأضغاث ريحانٍ جنيّ ويابس ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم *** بشرقيّ ساباط الدّيار البسابس وقوله: حمدت إلهي بعد عروة الخ، قال ابن جني في إعراب الحماسة: إذ بدل من بعد عروة، والمعنى: أشكر الله بعد ما اتفق من قتل عروة على تخلص خراش، وبعض الشر أخف من البعض كأنه تصور قتلهما جميعاً لو اتفق، فرأى قتل أحدهما أهون. قال ابن جني في إعراب الحماسة وأخذه التبريزي في شرحها: فإن قيل: ليس في الشر هين، وأفعل هذا يستعمل في مشتركين في صفة زاد أحدهما على الآخر، فكيف يجوز هذا، ولا هين في الشر؟ وجوابه أن هذا كلام محمول على معناه دون لفظه، وذلك أنه إن كان هناك حال تهون الشر من صبر عليه واحتساب، وطلب ذكر وثواب، فإنه أيضاً مراتب وليس بجار على سنن واحد. وقال التبريزي: قلت إن للشر مراتب ودرجات، فإذا جئت إلى آحادها وقد تصورت جملها، ورتب الآحاد فيها، وجدت كل نوع منها بمضامته للغير له حال في الخفة والثقل. وإذا كان كذلك فلا يمنع أن يوصف منه شيء بأنه أهو من غيره. وقوله: فو الله ما أنسى الخ، رواه القاري: فو الله لا أنسى. وقوسى بالقاف والقصر، قال المبرد في الكامل: وهو بلد تحله ثمالة بالسراة. وقال القالي في المقصور والممدود وتبعه أبو عبيد في معجم ما استعجم: هو موضع ببلاد هذيل، وفيه قتل عروة. وأنشد هذا البيت. وهذا خلاف الصواب. وأخطأ أبو عبيد في قوله: عروة أخو أبي كبير. وقال أبو عبيد أيضاً في شرح أمالي القالي: إن قوسى رواه أبو علي القالي بفتح القاف، وغيره يأبى إلا ضمها. وقال في معجم ما استعجم بفتح أوله وضمه معاً. وقال ياقوت في معجم البلدان: إن قوسى بفتح القاف وسكون الواو وسين مهملة ثم ألف مقصورة، تكتب ياء: بلد بالسراة، وبه قتل عروة أخو أبي خراش الهذلي ونجا ولده. ورزئته بالبناء للمفعول، أي: أصبت به. قال المرزوقي وتبعه التبريزي: تعلق الباء من قوله بجانب بقتيلاً، كأنه قال: ما أنسى قتيلاً على الأرض بجانب قوسى رزئته، ورزئته، وبجانب جميعاً صفة للقتيل، وقد دخله بعض الاختصاص بذكرهما. فأراد بالتعلق التعلق المعنوي، وهو كونه صفة كما صرح به في آخر الكلام. وقد غفل عنه الدماميني في الحاشية الهندية فقال: قال المرزوقي في الباء من قوله بجانب: يتعلق بقتيلاً. الظاهر أنه لا يعني قتيلاً المذكور؛ لأن وصفه مانع من إعماله، وإنما يعني قتيلاً محذوفاً. أي: رزئته حالة كونه قتيلاً بجانب قوسى. هذا كلامه. وقوله: ما مشيت على الأرض، قال ابن جني في إعراب الحماسة، وأخذه التبريزي: ما مع الفعل في تقدير مصدر، وحذف اسم الزمان معه، كأنه قال: مدة مشي على الأرض، وإن أمش على الأرض. وفي الكلام نية الشرط والجزاء. كأنه قال: لا أنسى قتيلاً رزئته إن مشيت على الأرض. ومعناه إن بقيت حياً. فلذلك وقع الماضي فيه في موضع المستقبل، لأن ما مشيت على الأرض في موضع ما أمشي على الأرض. وقوله: على أنها تعفو الكلوم الخ، قال التبريزي: هذا يجري مجرى الاعتذار منه، والاستدراك على نفسه فيما أطلقه من قوله: لا أنسى قتيلاً رزئته. والضمير للقصة وخبر إن الجملة بعدها. ولو قال على أنه لجاز، وكان الضمير للشأن. ويعني بالكلم الحزة عند ابتداء الفجيعة. وتعفو: تنمحي وتذهب وتبرأ، من عفا المنزل يعفو عفواً وعفواً وعفاء بالفتح والمد، بمعنى درس وانمحى. ويأتي متعدياً، يقال: عفته الريح بمعنى محته وليس بمراد هنا. وقوله: نوكل بالبناء للمفعول يروى بالنون وبالمثناة التحتية، من وكلته بأمر كذا توكيلاً، إذا فوضته إليه، أي: ألزمته به إلزاماً. والأدنى: الأقرب، أي: الرزي الأقرب. قال القاري: يقول: إنما نحزن على الأقرب فالأقرب، ومن مضى نسيناه، ولو عظم ما مضى. ومثله: السريع حادث ما مني يعولك وال *** أقدم تنساه وإن هو جل انتهى. قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: قال الأصمعي: هذا بيت حكمة. وقد ألم بهذا البيت أبو بكر بن دريد من قصيدة أوردها القالي في ذيل ماليه: بلى غير أنّ القلب ينكوه الأسى ال *** ملمّ وإن جلّ الجوى المتقدّم وضد هذا قول هشام في أخويه: أوفى، وغيلان ذي الرمة: الطويل تعزّيت عن أوفى بغيلان بعده *** عزاءً وجفن العين ملآن مترع ولم ينسني أوفى المصيبات بعده *** ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع قال التبريزي: موضع على أنها نصب على الحال، والعامل فيه ما أنسى. وهذا كما تقول: ما أترك حق فلان على ظلع لي، كأن التقدير: أؤديه ظالعاً. فعلى هذا يجيء: ما أنسى قتيلاً رزئته على عفاء الكلوم، أي: أذكره عافياً جرحى كسائر الجراح. قال ابن الحاجب في أماليه على أبيات المفصل: إن على هذه تقع في شعر العرب وكلامهم كثيراً، والمعنى فيها استدراك وإضراب عن الأول. ألا ترى أنك إذا قلت: لا يدخل فلان الجنة لسوء صنيعه، على أنه لا ييأس من رحمة الله، كان استدراكاً لما تقدم وإضراباً عن تحقيقه. وكذلك قوله في البيت الذي قبله: فو اللّه ما أنسى قتيلاً رزئته البيت. ثم قال: على أنها تعفو الكلوم. لأن المعنى: على أن العادة نسيان المصائب، إذا تطاولت، والحزن على ما كان من المصاب قريب العهد وهذا إضراب واستدراك لما تقدم من قوله: أنسى. وكذلك قوله، وهو أيضاً في الحماسة: الطويل وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دن *** يملّ وأنّ النّأي يشفي من الوجد بكلّ تداوينا فلم يشف ما بن *** على أنّ قرب الدّار خيرٌ من البعد على أنّ قرب الدّار ليس بنافعٍ *** إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ فقوله: بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ثم قال: على أن قرب الدار خير من البعد كالإضراب عن الأول، لأن المعنى: فلم يحصل لنا شفاء أصلاً، وإذا كان قرب الدار خيراً في المعنى المراد، ففيه شفاء وبعض شفاء أصلاً. وكذلك قوله: على أن قرب الدار خير من البعد، فاستدرك أنه لا يكون خيراً إلا مع الود، فأبطل العموم المتقدم في قوله قرب الدار خير من البعد. هذا معناها، وأما تعلقها على الوجه الإعرابي فيحتمل أمرين: أحدهما: أن تتعلق بالفعل المتقدم قبلها كما تعلقت حاشا الاستثنائية بما قبلها، لكونها أوصلت معنى ما قبلها إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإخراج. وأظهر منه أن يقال: إنها في موضع خبر محذوف المبتدأ، كأنه قيل: والتحقيق على أن الأمر كذا. فتعلقها بمحذوف كما يتعلق كل خبر جار ومجرور، لأن الجملة الأولى وقعت عن غير تحقيق، ثم جيء بما هو التحقيق فيها، وحذف المبتدأ لوضوح المعنى. وقد لخص ابن هشام في المغني هذا الكلام في على. والعجب من ابن هشام فإنه ذكر في شرح شواهده ما قاله التبريزي من كون على أنها تعفو حال وعامله لا أنسى، وغفل عن كلام المغني هذا. والذي رواه أبو بكر القاري في أشعار الهذليين والمبرد فيي الكامل وأبو علي القالي في أماليه وابن جني في المحتسب: بلى إنها تعفو الكلوم وإنما. قال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي: هذا رجوع من قوله الأول إلى ما هو أصح. وقال ابن جني عند توجيه قراءة الأعرج وغيره: يا حسره على العباد من سورة يس، ساكنة الهاء: قالوا في تفسير قوله تعالى: {لا يؤاخذْكم اللَّه باللَّغْوِ في أيمانِكُم: هو كقولك: لا والله، وبلى والله. فأين سرعة اللفظ بذكر اسم الله تعالى هنا من التثبت فيه والإشباع له، والمماطلة عليه من قول الهذلي: فو اللّه لا أنسى قتيلاً رزئته البيت. أفلا ترى إلى تنطعك هذه اللفظة في النطق هنا بها، وتمطيك لإشباع معنى القسم عليها. وكذلك أيضاً قد ترى إلى إطالة الصوت بقوله من بعده: بلى إنّها تعفو الكلوم ***............ البيت أفلا تراه لما أكذب نفسه، وتدارك ما كان أفرط فيه لفظه، أطال الإقامة على قوله بلى، رجوعاً إلى الحق عنده، وانتكائاً عما كان عقد عليه يمينه. فأين قوله هنا فو الله، وقوله بلى، منهما في قوله: لا والله وبلى والله. وعليه قوله تعالى: {ولكن يؤاخِذُكُمْ بما عَقَّتم الأيمان}، أي: وكدتموها وحققتموها. انتهى كلامه. وقوله: ولم أدر من ألقى عليه رداءه الخ، قال ابن جني: في إعراب الحماسة: من هنا استفهام، وخبرها ألقى. ويجوز أن تكون موصولة فتكون منصوبة الموضع بأدري على حد قولك: ما دريت به، ثم تحذف حرف الجر. ولا يحسن أن تكون نكرة وألقى صفة لها؛ لأنه يصير المعنى لم أدر إنساناً ألقى عليه رداءه. وهذا ربما أوهم أنه لم يلق أحد منهم رداءه. والأمر بضد ذلك. وقوله: على أنه قد سل، قال التبريزي: موضع على نصب على الحال كأنه قال: لا أدريه مسلولاً عن ماجد محض. وروى في الحماسة: سوى أنه وهو استثناء منقطع، والمعنى لا أعرف اسمه ونسبه، لكنه ولد كريم بما ظهر من فعله. قال القاري: لما صرع خراش ألقى عليه رجل ثيابه فواراه، وشغلوا بقتل عروة فنجا خراش. والرجل الذي ألقى عليه ثوبه من أزد شنوءة، فقال: لا أدري من ألقى عليه ثيابه، ولكنه سل عن ماجد محض، يعني الرداء. والماجد المحض، أي: خالص النسب، هو الذي ألقى عليه ثوبه. فالمسلول على هذا، هو الرداء لا الوالد كما قال التبريزي. وقال أبو عبيد البكري فما كتبه على أمالي القالي: في هذا البيت ثلاثة أقوال: قال قوم: إن عروة لما قتل ألقى عليه رداءه رجل من القوم فكفنه به. وقال آخرون: بل الذي ألقى عليه الرجل هو خراش وذلك أن رجلاً من ثمالة ألقى عليه رداءه، ليخفى عليهم، وقد شغل القوم بقتل عروة فقال: اهرب. وعطف القوم عليه فلم يروه. وقيل: بل ألقى رجل على خراش رداءه إجارة له؛ وكذلك كانوا يفعلون. وهذا مثل قول بعضهم، يذكر رجلاً من عليه: الطويل ولمّا رأيت أنّه متعبّطٌ *** دعوت بني بدرٍ وألحفته بردي انتهى. وقد تقدم هذا الأخير عن المبرد. وقوله: ولم يك مثلوج الفؤاد الخ، قال القاري: أي: لم يكن مثلوج الفؤاد ضعيفه، أي: بارد الفؤاد. والمثلوج: البارد. يقال: للرجل إذا لم يكن ذا رأي وحزم: ما أبرد فؤاده وما أخلاه! من ذاك. وقال التبريزي: كأنه أصاب فؤاده ثلج فبردت حرارته. والمهبج، بفتح الموحدة المشددة بعدها جيم، قال القاري: هو المثقل الكثير اللحم المنتفخ الوجه. وقال التبريزي: هو المرهل اللحم المتغير اللون. والربيلة، بفتح الراء المهملة بعدها موحدة، قال القاري: يقال إنها النعمة والخصب. وإنه لربل اللحم، إذا كان رطب اللحم. وليس عندي كما قالوا، لبيت سمعته، وهو: الطويل ربلنا على الأعدا لنبتغي البو *** ولا من وترنا يستقاد وتير فالربيلة: الكثرة والشدة. يقال: رل بنو فلان إذا كثروا. والوتير: الموتور. والبواء: أن يقتل الرجل بالرجل. وقال التبريزي: الربيلة: الرطوبة والسمن. يقال: رجل ربل. ومعنى الشعر أنه رجع إلى صفة عروة فقال: كان ذكي الفؤاد شهماً، لم يكن ممن ضيع شبابه في صلاح البدن. وهذا أولى، لشيئين: أحدهما: قوله ولم يك، لأنه يدل ظاهره على أنه نعت فائت. والآخر: وصفه بأوصاف لا يوصف بها من لا يعرف. ولا يعدل عن هذا الوجه، وإن كان قد ذكر أنه من صفات الذي أنجى خراشاً. والخفض: الدعة والراحة. وقوله: ولكنه قد نازعته الخ، قال التبريزي: ويروى: ولكنه قد لوحته مخامص. ولوحته: غيرته. والمخامص: جمع مخمصة، وهي خلاء البطن من الطعام جوعاً. والمجاوع مثل المخامص، وإنما أثرت فيه المجاوع، لأنه إذا سافر آثر صحبه على نفسه بزاده ويجوع. وقوله: صادق النهض، يعني النهوض للمكارم والعلا، لا يكذب فيها إذا نهض لها. هذا ما أورده صاحب الحماسة وغيره، وزاد أبو بكر القاري، والمبرد في الكامل بعد هذا بيتين، وهما: كأنّهم يشّبّثون بطائرٍ *** خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض قال القاري: يقول: هؤلاء الذين يعدون خلف خراش كأنهم يتعلقون بطائر خفيف المشاش، أي: ليس بكثير اللحم. يقال لكل ما استخف وخف: إنه لخفيف المشاش، بضم الميم. والطائر: العقاب. ثم قال: عظمه غير ذي نحض، أي: هو خفيف ليس بمثقل. والنحض: اللحم. وهو بفتح النون وسكون الحاء المهملة. ويشبثون أصله يتشبثون. وروى المبرد: كأنهم يسعون في إثر طائر. وهذا البيت يؤيد ما اختاره التبريزي من أن الكلام في وصف خراش. يبادر جنح اللّيل فهو مهابذٌ *** يحثّ الجناح بالتّبسّط والقبض قال القاري: فهو مهابذ، يعني الطائر، والمهابذ: السريع، فهو جاد ناج. وأصله من مر يهذب إهذاباً، ولكنه قلب. والقبض: أن يقبض جناحيه. وقال لي الأصمعي: سمعت ابن أبي طرفة ينشد مهابذ وإنما أراد مهاذب، فقلبه، فقال: مهابذ. يقال: مر يهذب إهذاباً، إذا عدا عدواً شديداً. وقد سمعت غيره يقول مهابذ، أي: جاد. قال المبرد: وقوله فهو مهابذ، يقول: مجتهد. وهذيل فيها سعي شديد، وفي جماعة من القبائل التي تحل بأكناف الحجاز. وأنشد بعده: الخفيف إنّ من يدخل الكنيسة يوم *** يلق فيها جآذراً وظباء على أن اسم إن ضمير شأن محذوف، والجملة بعدها خبرها، وإنما لم يجعل من اسمها لأنها شرطية، بدليل جزمها الفعلين، والشرط له الصدر في جملته، فلا يعمل فيه ما قبله. وقد تقدم الكلام على هذا البيت في الشاهد الثامن والسبعين. وأنشد بعده: الشاهد السابع بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه: الخفيف إنّ من لام في بني بنت حسّ *** ن ألمه وأعصه في الخطوب على أن اسم إن ضمير شأن محذوف. قال سيبويه في باب ما يكون فيه الأسماء التي يجازى بها بمنزلة الذي، وذلك قولك: إن من يأتيني آتيه، وكان من يأتيني آتيه، وليس من يأتيني آتيه. وإنما أذهبت الجزاء هنا لأنك اعملت كان، وإن، ولم يسغ لك أن تدع كان وإشباهه معلقة لا تعملها في شيء، فلما أعملتهن ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه. ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى، تريد إن إن، وإن متى كان محالاً. وإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت. فمن ذلك قوله: إنه من يأتنا نأته، وقال جل وعز: إنه مَنْ يأتِ ربَّهُ مُجْرِماً فإنَّ له جَهَنَّم ، وكنت من يأتني آته. وتقول: كان من يأتنا نعطه، وليس من يأتنا نعطه إذا أضمرت الاسم في كان، وفي ليس، لأنه حينئذ بمنزلة لست وكنت. فإن لم تضمر فالكلام على ما وصفتا، وقد جاء في الشعر: إن من يأتني آته. قال الأعشى: إنّ من لام في بني بنت حسّان ***.................. البيت فزعم الخليل أنه إنما جازى حيث أضمر الهاء، فأراد إنه. ولو لم يرد الهاء كان محالاً. فعلم أن حذف اسم إن في هذا مخصوص بالضرورة. وكذلك قال الأعلم: الشاهد في جعل من للجزاء مع إضمار منصوب إن ضرورة. وقال النحاس: يقدره سيبويه على حذف الهاء، وهو قبيح. وفيما كتبته عن أبي إسحاق: لم يجز إن من يأتني آته من جهتين، لأن من إذا كانت شرطا واستفهاماً، لم يعمل فيها ما قبلها، ولأن تقديرها تقدير إن في المجازاة، فكما لا يجوز: إن إن تأتنا نكرمك، كذا لا يجوز هذا. فإذا جاء في الشعر فعلى إضمار الهاء. وقال أبو العباس في الشرح: وأجاز الزيادي: إن من يأتنا نأته، على غير ضمير في أن. وهذا لا يجوز لامتناع الجزاء من أن يعمل فيه ما قبله. ولام: فاعله ضمير من الشرطية، والجملة في محل جزم لأنه شرط، وألمه مجزوم، والأصل ألومه فحذفت الواو للساكن، وهو جزاء الشرط، والهاء ضمير من. وأعصه معطوف على ألمه، وأصله أعصيه، فحذفت الياء لما ذكرنا في ألمه. والخطوب: جمع خطب، وهو الأمر والشأن. والبيت في ديوان الأعشى كذا: من يلمني على بني بنت حسّان الخ وعليه لا شاهد فيه. وهو من قصيدة له مدح بها قيساً، أبا الأشعث بن قيس الكندي. وأولها: من ديارٍ هضبٌ كهضب القليب *** فاض ماء الشؤون فيض الغروب أخلفتني بها قتيلة ميع *** دي وكانت للوعد غير كذوب إلى أن قال: من يلمني على بني بنت حسّ *** ن ألمه وأعصه في الخطوب إنّ قيساً قيس الفعال أبا الأش *** عث أمست أعداؤه لشعوب ذاكم الماجد الجواد أبو الأش *** عث أهل النّدى وأهل السّيوب كلّ عامٍ يمدّني بجمومٍ *** عند ترك العنان وبنجيب تلك خيلي منه وتلك ركابي *** هنّ صفرٌ أولادها كالزّبيب قوله: من ديار الخ، من تعليلية. والهضب الأول: المطر، يقال: هضبتهم السماء، أي: مطرتهم. وهضب القليب: ماء لبني قنفذ من بني سليم. كذا قال البكري في معجم ما استعجم. وهو في الأصل جمع هضبة، وهو الجبل المنبسط على وجه الأرض. والقليب: البئر، لأنه قلب ترابها. والشؤون: جمع شأن، وهو مجرى الدمع في العين. والغروب: جمع غرب بفتح المعجمة وسكون المهملة: الدلو العظيمة. وقتيلة بالتصغير: اسم امرأة. وقوله: بني بنت حسان، وحسان أحد تبابعة اليمن. وقوله: إن قيساً الخ، هو قيس بن معد يكرب الكندي، مات في الجاهلية، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني بعد المائتين، وكان يكنى بابنه الأشعث. والأشعث اسمه معد يكرب، كان أبداً أشعث الرأس فسمي الأشعث. وهو من الصحابة، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر وأسلم، وكان شريفاً مطاعاً جواداً شجاعاً. وهو أول من مشت الرجال في خدمته، وهو راكب. وكان من أصحاب علي رضي الله عنه، في وقعة صفين، وقد قاتل قتالاً شديداً حتى هجم على أصحاب معاوية ودفعهم عن ماء الفرات وأخذه منهم، بعد أن منع منه أصحاب علي رضي الله عنه بليلة. وصلى عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما، وله من العمر ثلاث وستون سنة. والفعال بفتح الفاء: الكرم والجود. وشعوب، بالفتح: علم للمنية. والسيوب: جمع سيب، بفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية، وهو العطاء. يمدني من الإمداد. والجموم، بفتح الجيم: الفرس الكثير الجري. وقوله: عند ترك العنان، أي: عند تركك تحريكه في الجري، يعطيك ما عنده من الجري عفواً. والنجيب: الجمل الكريم. وقوله: تلك خيلي منه، أي: من قيس. والركاب: الإبل، لا واحد له من لفظه، وإنما يعبر عن واحد بالراحلة. وصفر: جمع أصفر بمعنى أسود. وقد استشهد به البيضاوي عند تفسير قوله تعالى: {صفراءُ فاقعٌ لونه} من سورة البقرة. قال: عن الحسن البصري: صفراء: سوداء شديدة السواد، وبه فسر قوله تعالى: {جِمالاتٌ صُفْر}. وقال الأعشى: تلك خيلي منه وتلك ركابي ***................. البيت ولعله عبر بالصفرة عن السواد، لأنها من مقدماته، ولأن سواد الإبل يعلوه صفرة. وفيه نظر، لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع. انتهى. وهذا اعتراض على تفسير الصفرة في الآية بالسواد. وأما البيت فسكت عنه. واعترضه صاحب الكشف من وجهين: الأول أن الزبيب الغالب عند العرب الطائفي، وهو إلى الصفرة أقرب منه إلى الحمرة. والثاني جواز أن يراد: هن صفر وأولادها سود. وأجيب عن الأول بأن تشبيه الشيء بالزبيب، صار علماً في الوصف بالسواد في لسان الفصحاء، وكون بعض أفراده أصفر وأحمر لا يقدح في ذلك. وعن الثاني بأن الظاهر من العبارة كون أولادها فاعلاً لصفر، وكون هن صفر جملة، وأولادها كالزبيب أخرى، فبعيد لا يتبادر إلى الفهم السليم. وترجمة الأعشى قد تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الشاهد الثامن بعد الأربعمائة، وهو من أبيات المفصل: الطويل فلو أنّك في يوم الرّخاء سألتني تمامه: طلاقك لم أبخل وأنت صديق على أن إعمال أن المخففة في الضمير البارز شاذ. وفيه شذوذ آخر؛ وهو كون الضمير غير ضمير الشأن، لأنهم قالوا: إن أن إذا خففت وجب أن يكون اسمها ضميراً غائباً، وأن يكون ضمير شأن. قال سيبويه في الباب السابق، بعد قول الأعشى: البسيط في فتيةٍ كسيوف الهند قد علمو *** أن هالكٌ كلّ من يحفى وينتعل يريد معنى الهاء، ولا يخفف أن إلا عليه، كما قال: قد علمت أن لا يقول، أي: أنه لا يقول، وقال تعالى: {أفَلا يَرَوْنَ ألاَّ يرجعُ إليهم قول}، وليس هذا بقوي في الكلام كقوة أن لا يقول، لأن لا عوض من ذهاب العلامة. ألا ترى أنهم لا يكادون يتكلمون بغير الهاء فيقولون قد علمت أن عبد الله منطلق. انتهى. وقال الفراء في تفسيره من سورة الحجر، عند الكلام على حذف نون الوقاية: وقد خففت العرب النون من أن الناصبة، ثم أنفذوا لها عملها، وهي أشد من ذا. قال الشاعر: الطويل فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني *** فراقك لم أبخل وأنت صديق فما ردّ تزويجٌ عليه شهادةٌ *** ولا ردّ من بعد الحرار عتيق وقال الآخر: المتقارب وقد علم الضّيف والمرملون *** إذا اغبرّ أفقٌ وهبّت شمالا بأنك ربيعٌ وغيثٌ مريعٌ *** وقدماً هناك تكون الثّمالا انتهى. وظاهره أنها تعمل مطلقاً كالمثقلة. ونقل ابن المستوفي عنه في شرح أبيات المفصل لم يسمع من العرب تخفيف أن وإعمالها إلا مع المكني، لأنه لا يتبين فيه الإعراب، فأما مع الظاهر فلا. ولكن إذا خففوها رفعوا. انتهى. ومنه تعلم أن نقل ابن هشام في المغني عن الكوفيين، أنهم زعموا أنها إذا خففت لا تعمل شيئاً غير صحيح. وتحريره أن اسمها إذا كان ظاهراً لا تعمل شيئاً. والبيت خطاب لزوجته في طلبها الطلاق، ويريد بيوم الرخاء قبل إحكام عقد النكاح، بدليل البيت الثاني. وبه يسقط قول الدماميني في الحاشية الهندية على المغني: إن الشاعر خاطب امرأته واصفاً نفسه بالجود. وقوله: في يوم الرخاء من التتميم. وكذا قوله: وأنت صديق؛ لوقوع كل منهما في كلام لا يفيد خلاف المقصود، مفيداً لنكتة، وهي المبالغة في الاتصاف بالجود. ويحتمل أن يكون مراده وصف نفسه بمحبته هذه المرأة، وأنه قد يؤثر ما تختاره هي على ما يختاره هو، حرصاً على رضاها وحصول مرادها. انتهى. وتبعه العيني، فقال: إنه يصف نفسه بالجود، حتى لو سأله الحبيب الفراق مع حبه لأجابه إلى ذلك، وإن كان في الدعة والراحة، كراهة رد السائل. وإنما خص يوم الرخاء، لأن الإنسان ربما يفارق الأحباب في يوم الشدة. هذا كلامه. ونقل السيوطي في شرح شواهد المغني كلام العيني. وزعم بعضهم أن الخطاب لمذكر، وروى: فراقك بدل: طلاقك. وهذا كله ناشئ من عدم الاطلاع على البيت الثاني. ويوم الرخاء متعلق بسألتني، وطلاقك مفعوله الثاني، والجملة خبر أن المخففة، ولم أبخل جواب لو، وجملة: أنت صديق، حال من ضمير أبخل. فإن قلت: كان الواجب أن يقول: وأنت صديقة؟ قلت: قال الشارح المحقق في شرح الشافية عند الكلام على جمع الصفة جمع تكسير: وقد جاء شيء من فعيل بمعنى فاعل مستوياً فيه المذكر والمؤنث، حملاً على فعيل بمعنى مفعول نحو: جديد وسديس، وريح خريق، ورحمة الله قريب. ويلزم ذلك في سديس وخريق. انتهى. وقال صاحب العباب: قد يقال للواحد والجمع والمؤنث، قال الله تعالى: {وصديقكم}، أي: أصدقائكم. وقال: الطويل نصبن الهوى ثمّ ارتمين قلوبن *** بأعين أعداءٍ وهنّ صديق وأنشد الليث: الطويل إذ النّاس ناسٌ والزّمان بعزّةٍ *** وإذ أمّ عمّارٍ صديقٌ مساعف انتهى. والحرار بفتح الحاء المهملة: مصدر حر يحر، من باب تعب، أي: صار حراً. والبيتان أنشدهما الفراء ولم يعزهما لأحد.
|